14 يوليو 1953 مقتل ستة جزائريين وفرنسي برصاص الشرطة في باريس
عمار طابجادي، عبد الله باشا، لعربي داوي، عبد القادر درانيس، محمد إيزيدور إيلول، مدجان الطاهر، موريس ليرو. ستة من
مسلمي الجزائر الفرنسيين وفرنسي ناشط في الكونفدرالية العامة للشغل (سي جي تي). أسماؤهم ربما غير معروفة بالنسبة
للكثيرين، لكنهم جميعهم قتلوا في 14 يوليو/تموز 1953 برصاص الشرطة الفرنسية في باريس.
في تلك الفترة، بدأت تتجلى مطالب الاستقلال في أوساط ما كان يسمى “الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية”. وإن كانت
الأنظار آنذاك متجهة نحو حرب الهند الصينية “أندوشين” حيث تدور رحى الحرب منذ اندلاعها في 1946، إلا أن المناضلين
القوميين الجزائريين المنضوين تحت راية حركة انتصار الحريات الديمقراطية بزعامة مصالي الحاج صاروا يُسمعون صوتهم
بتكثيف نشاطهم من أجل الاستقلال عن فرنسا. وما إن قرروا “المشاركة” في العرض التقليدي الشعبي بمناسبة العيد الوطني
الفرنسي احتفاء بـ”قيم الجمهورية” حتى تحول الاحتفال إلى حمام دم.
الصدمة كانت كبيرة لدى الرأي العام، خاصة أن الصحافة خصصت للحدث المأساوي فضاءات واسعة. لكن الخطاب الرسمي سار
بالاتجاه المعاكس، إذ تحول القمع البوليسي الدموي إلى “دفاع شرعي عن النفس” لتبرير ما حصل. وبالتالي، لم تتم ملاحقة
أي
شرطي، وخلص التحقيق إلى ما يسمى قضائيا “رد الدعوة” ما يعني البراءة التامة للمجرمين، وهو ما أطلق عليه مخرج الأفلام
الوثائقية الفرنسي دانيال كوبفرشتاين “كذبة الدولة”.
فمن يتذكر هذه الحادثة، بعد سبعين عاما على وقوعها؟ البعض يطالب بأن تعترف فرنسا رسميا بـ “جريمة الدولة”، في حين
يسعى
البعض الآخر وفي مقدمتهم أولاد موريس ليرو لإحياء ذكرى الضحايا وتكريمهم.
متظاهرون جزائريون في شارع “فوبور سانت أنطوان” بالدائرة الباريسية الـ11، 14 يوليو 1953 © ذاكرة لومانيتيه، أرشيف مقاطعة سين سان دوني
14 يوليو 1953: العرض الشعبي يتحول إلى حمام دم
غداة الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، شهدت التوازنات العالمية والعلاقات الدولية تحولا جذريا، إذ بات
“الجدار
الحديدي” يفصل بين ألمانيا الغربية عن جارتها الشرقية وأيضا بين المعسكر الغربي (الديمقراطي والليبرالي) بزعامة
الولايات المتحدة وحلفائها والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له، وكلها شيوعية.
من جانبهم، وبعد أن ضحوا بخيرة أولادهم خلال الحرب، بدأ سكان المستعمرات الفرنسية يراودهم حلم الاستقلال أكثر
فأكثر.
في هذا السياق، خرج الجزائريون في 8 مايو/أيار 1945 للشوارع احتفالا بانتصار الحلفاء على النازية، رافعين علم
بلدهم
ومرددين شعار “تحيا الجزائر مستقلة”. الآلاف منهم قتلوا في مدن سطيف وقالمة وخراطة (شرق البلاد) برصاص الشرطة
الفرنسية.
بدأت بوادر تفكك الإمبراطورية الاستعمارية تنمو أكثر فأكثر، إذ بعد أن نشبت حرب الهند الصينية ضد المستعمر الفرنسي
في 1946، انتفض الشعب في مدغشقر.
وصول تعزيزات فرنسية قادمة من شمال أفريقيا إلى هيفونغ خلال حرب الهند الصينية. 12 يناير/كانون
الثاني 1951، © أ ف ب
في العام 1953، كان الوضع السياسي بفرنسا مشحونا، فقد زجت السلطات بعدة قياديين في الحزب الشيوعي الفرنسي ومسؤولي
نقابات عمالية في السجن، لرفضهم حرب الهند الصينية. كانت الفرصة مواتية، بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني في 14
يوليو/تموز، للمطالبة بإطلاق سراحهم كما حدث خلال الاحتفالات بعيد العمال في 1 مايو/أيار.
يقول المؤرخ إيمانويل بلونشار، باحث متخصص في تاريخ حرب الجزائر وفي قضايا الشرطة، إن “14 يوليو كان منذ حقبة حزب
الجبهة الشعبية [وهو تحالف لأحزاب اليسار تزعمه ليون بلوم وحكم فرنسا بين 1936 و1938] مناسبة للتعبئة العمالية
والشعبية، لا سيما بالنسبة للحزب الشيوعي والنقابات. كانت تنظم خلاله عروضا عائلية وشعبية بهدف إظهار قوة الحركة
العمالية وكذلك تجانسها وتماسكها.
قادة شيوعيون يشاركون في احتفالات 14 يوليو/تموز 1945. من اليسار إلى اليمين: مارسيل كاشان أحد
مؤسسي الحزب الشيوعي في 1920، موريس توريز أمين عام الكونفدرالية العامة للشغل ابتداء من عام 1930، جاك دوكلو
وأندري
مارتي. © أ ف ب
كان مناضلو حركة انتصار الحريات الديمقراطية وحزب الشعب الجزائري -السري اعتبارا من 1939 بعد حله من قبل السلطات
الفرنسية- يحاولون المشاركة في الاحتفالات الرسمية منذ 1936. في عام 1953 -كما يذكر المخرج دانيال كوبفرشتاين صاحب
فيلم وكتاب “رصاصات 14 يوليو 1953″- صار الفرنسيون المسلمون بالجزائر، يطالبون بالمساواة مع باقي الفرنسيين، إذ
كانوا يُعتبرون في بلدهم الأم مواطنين من الدرجة الثانية ليس لديهم حق الانتخاب ولا يتقاضون أجورا متساوية. وبدأ
يكبر لديهم حلم الاستقلال”.
في 14 يوليو/تموز 1953، انضم نحو 8 آلاف قومي جزائري لموكب من 10 آلاف إلى 15 ألف شخص حسب أرقام محافظة الشرطة في
باريس. في حدود الساعة الرابعة بعد الظهر، انطلقوا من ساحة الباستيل باتجاه ساحة الأمة (ناسيون). ورغم أنهم كانوا
في
الصفوف الخلفية، إلا أن حضورهم كان ملفتا، كما يؤكد المؤرخ إيمانويل بلونشار صاحب كتاب “قصة الهجرة الجزائرية إلى
فرنسا”. ويضيف الأخير إن هدف حركة انتصار الحريات الديمقراطية كان إظهار قوتها وقدرتها بالتنظيم والانضباط، مضيفا
إن
عناصرها كانوا “يمشون بخطى منتظمة وكأنهم عسكريون”. وهو ما أشار إليه أيضا دانيال كوبفرشتاين بنفس العبارات
تقريبا،
موضحا أن مسيرتهم داخل الموكب أبهرت الحاضرين.
رفع الجزائريون خلال العرض الشعبي صورة عملاقة لزعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج، الذي كان رهن الإقامة الجبرية في
نيور (جنوب غرب فرنسا)، فيما كانت بعض الأعلام المستقبلية للجزائر المستقلة ترفرف في سماء باريس. شعارات أخرى كانت
حاضرة، أبرزها “يا شعب فرنسا، حين تدافع عن حرياتك تدافع عن حرياتنا كذلك”، “أطلقوا سراح مصالي الحاج”، و”عمل
متساو،
أجر متساو”.
مصالي الحاج في شوارع مدينة نيور حيث كان رهن الإقامة الجبرية. 17 مايو/أيار 1952. © أ ف ب
حظي الموكب الجزائري بإعجاب الجمهور الباريسي، لكنه أزعج قوات الأمن الفرنسية التي كانت نحو ألفي شرطي ودركي
منتشرين بالمكان، حيث اعتبرت مشاركته استفزازا. فجراء نشاطات وتحركات مناضلي حركة انتصار الحريات الديمقراطية في
باريس، كانت علاقاتهم مع الشرطة سيئة للغاية وفقا لإيمانويل بلونشار. وغالبا من كان رجال الأمن يعترضونهم في
الأسواق
أو أمام ورشات العمل حيث كانوا يحاولون بيع جرائد ومنشورات الحركة، “لكن صمود القوميين ومقاومتهم كانت تتسبب بنشوب
شجار بينهم وبين رجال الشرطة”.
متظاهرون جزائريون يحملون علم حركة انتصار الحريات الديمقراطية أثناء اشتباكات مع الشرطة في
باريس، 1 مايو 1951. © أ ف ب
كانت المظاهرات العمالية في خمسينيات القرن الماضي “هجومية للغاية”، إلى درجة أنها في بعض الأحيان كانت تتخللها
اشتباكات “عنيفة” مع الشرطة. في 1 مايو/أيار 1951، “شارك الجزائريون في صدامات عنيفة مع قوات الأمن أصيب فيها
العشرات من رجال الشرطة بجروح”، حسب المؤرخ بلونشار، “وهو ما أثار لدى هؤلاء (عناصر الشرطة) رغبة شديدة في
الانتقام
كشكل من أشكال العنصرية الاستعمارية. فرجال الأمن لا يتحملون أصلا وجود الجزائريين في فرنسا. فبالنسبة لهم هم
فرنسيون لأنهم مستعمرون. ما ولد لديهم نوعا من الدونية والعنصرية… بالنسبة لبعض رجال الشرطة كانت لديهم رغبة
بتصفية حساباتهم مباشرة على الأرض”.
شرطي وقع على الأرض جراء إصابته خلال مظاهرة 1 مايو/أيار 1951. © أ ف ب
بدأت قوات الأمن في قمع المتظاهرين حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر، فيما كانت الأمطار تتهاطل بغزارة على باريس،
ليتحول العرض الذي بدأ سلميا إلى حمام دم. فحسب المخرج دانيال كوبفرشتاين، الذي رصد في 2012 شهادات مهمة لبعض رجال
الشرطة ومتظاهرين، “تدخلت قوات الأمن عند وصول المسيرة إلى ساحة الأمة. انتزعت الأعلام الجزائرية واللافتات
والصور،
لكن الجزائريين وقفوا صامدين وردوا على رصاص الشرطة بالعصي والقوارير الزجاجية”. ويتابع المخرج قائلا: “تراجعت
الشرطة ثم عادت لتهاجم المتظاهرين وتطلق النار عليهم بصورة عشوائية”، مشيرا أنه تمكن من رصد أثر 48 رصاصة بعد ستين
عاما على وقوع الحادثة.
مقتطف من فيلم “رصاصات 14 يوليو”
عملية القمع طالت المارة حتى الفرنسيين منهم. ومن بين الشهادات التي تضمنها فيلم “رصاصات 14 يوليو 1953″، شهادة
كريستيان بونفوا:
“رأيت رجلا من شمال أفريقيا يتعرض لضرب مبرح من قبل أحد عناصر الأمن، “ضربه وألقاه باتجاه عمود. أنا أيضا تعرضت
للضرب من قبل الشرطي ذاته (…) نشبت صدامات بين عناصر الأمن وأشخاص من شمال أفريقيا عند مدخل جادة بيكبوس فلجأت
إلى
مقهى “لوبوكي دي ترون” (باقة العرش). سمعت إطلاق رصاص (…) بعدها بقليل بدأ نقل الجرحى من المتظاهرين إلى المقهى.
أحدهم كان مصابا في الصدر… تبين لاحقا أنه فارق الحياة.”
كريستيان بونفوا
جان لروانس يروي كيف قُتل شخص بالقرب منه
“المظاهرة انتهت… عندما وصل موكب ضخم من الجزائريين رافعين لافتات ضد استعمار الجزائر وأعلاما جزائرية. وفجأة،
رأيت أشخاصا يركضون بكل الاتجاهات ورأيت الشرطة تتدخل وتنتزع منهم اللافتات وتعتدي عليهم بالهراوات. بالطبع، صمد
الجزائريون ولم يستسلموا أمام عنف الشرطة، بعضهم سقط على الأرض والدماء كانت تسيل منهم. كنت على بعد خمسين مترا من
عناصر الشرطة بشارع شارون… فرأيت شخصا لم أكن أعرفه يتوسط المتظاهرين والشرطة، رفع يديه للسماء وبدأ يصيح
“أوقفوا
إطلاق النار”، “توقفوا”… لكن الرصاص استمر… علمت لاحقا أن هذا الرجل يدعى موريس ليرو، وأنه كان عضوا في
الكونفدرالية العامة للشغل”.
جان لروانس
نفس القصص والروايات وجدها دانيال كوبفرشتاين خلال التحقيق الذي أجراه بالجزائر في عام 2012.
“عندما بدأ إطلاق النار، كان الناس يعتقدون بأنها الأمطار. رأيت رجال الشرطة ينهالون بالضرب على امرأة فتدخلت
لفكها
من قبضتهم لكني تلقيت ضربات على رأسي، ثم قم شخصان بمساعدتي للذهاب إلى المستشفى”.
محمد بن ياسين، عشرون عاما عندما وقعت هذه الأحداث.
في بضع دقائق فقط، تلطخت الأرض بدماء الضحايا تحت الأمطار المتساقطة، حسب الشهود. الحصيلة ثقيلة.
عمار طابجادي، عبد الله باشا، لعربي داوي، عبد القادر درانيس، محمد إيزيدور إيلول، مدجان الطاهر، موريس ليرو. ستة
من مسلمي الجزائر الفرنسيين وفرنسي مناضل في الكونفدرالية العامة للشغل (سي جي تي) قتلوا برصاص الشرطة الباريسية.
إنها مجزرة بالنسبة للبعض، مذبحة للبعض الآخر. “إطلاق نار، مجزرة… رصاص كثيف، بالنسبة للمؤرخ إيمانويل
بلونشار…
المهم أن عناصر شرطة كثيرون أطلقوا عشرات وعشرات الرصاصات. الأمر يشكل قطيعة وسابقة في مهام حفظ الأمن بفرنسا. آخر
مرة استخدمت الشرطة أسلحة في باريس، كانت في 6 فبراير/شباط 1934. لكن في يوليو/تموز 1953 لم يكن هناك أي خطر مباشر
على مؤسسات الدولة، بل الأمر كان يتعلق بقمع مطالب التحرر والتعبير عن الكرامة الوطنية.
إحراق سيارة وشاحنة للشرطة خلال اشتباكات بين متظاهرين جزائريين وعناصر الشرطة في باريس. 15
يوليو/تموز 1953. © أ ف ب
من “كذبة الدولة” إلى النسيان
كيف يمكن قراءة وتفسير هذا الكم من العنف وسط باريس قبل عام من اندلاع حرب استقلال الجزائر؟ بالنسبة لإيمانويل
بلونشار، مجرد وجود القوميين الجزائريين في المظاهرة كان يشكل استفزازا بنظر الشرطة. “فهم لا يتمتعون بنفس الحقوق
السياسية مقارنة بباقي الفرنسيين، وبالتالي كان يُنظر إليهم على أنهم غير مؤهلين للتظاهر، خاصة أنهم بدأوا يطرحون
قضية الاستعمار من خلال التعبير بوضوح عن مطالب التحرر التي برزت بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وبما
أنهم
ليسوا مواطنين بالمعنى الكامل، استخدمت الشرطة ضدهم نفس الإجراءات التي استخدمها الجيش ضد العمال في عام 1891
عندما
فتح النار على مضربين”.
الطابع العنصري للقمع تأكد من خلال التحقيق الذي أجراه دانيال كوبفرشتاين. “ظهر من خلال شهادة الشرطيين اللذين
استجوبتهما فقد أطلقا النار بصورة عشوائية انطلاقا من قناعتهما بأن الذين يتظاهرون (من الجزائريين) ليسوا بشرا.
ظهر
أيضا أنهما لا يشعران بالندم على ما فعلا، وأن ذلك لا يؤرقهما على الإطلاق. لقد تحدثا عن إطلاق نار دفاعا عن
النفس،
لكن إطلاق رصاصة في الظهر لا يدخل في خانة الدفاع عن النفس”.
شددت محافظة الشرطة في باريس يوم الحادثة المأساوية على أن ما حصل هو بالفعل دفاع عن النفس، فقد تحدثت في بيان
صحفي
عن “سكاكين” و”مقذوفات عدة” استخدمها ألفا شخص من شمال أفريقيا لمهاجمة “عدد قليل من عناصر الأمن بوحشية”. وقالت
أيضا إن عدد الجرحى ضمن قوات الأمن بلغ 150، لكن (ملف التحقيق لم يشمل سوى 11 جريحا). وهو ما اعتبره دانيال
كوبفرشتاين بأنه “مبالغ فيه”، مشيرا أن “بعد ثلاثة أيام على المأساة، لم يكن هناك سوى عشرة عناصر شرطة جرحى في
المستشفيات”.
تدخل رجال الإطفاء بعد اشتباكات 15 يوليو/تموز 1953 في باريس. © أ ف ب.
غداة الحادثة، تداولت هذه الرواية الرسمية الصحف اليمينية مثل “لورور” (الفجر) و”فرانس سوار” (فرنسا مساء)، فيما
عنونت صحيفة “ليبراسيون” اليسارية “الشرطة تطلق النار: سبعة قتلى”. من جهتها، تحدثت “لومانيتيه” الشيوعية عن
“استفزاز من قبل الشرطة”.
على ضوء المعلومات (الحقيقية) المتوفرة، قال إيمانويل بلونشار “لا يوجد أي دليل على أن المتظاهرين أطلقوا النار
على
الشرطة”، مضيفا أنه “لم يتم العثور على أي سلاح لديهم”. وقال: “في 16 يوليو/تموز 1953 بالبرلمان، لم يعد وزير
الداخلية الفرنسي ليون مارتينو-ديبلا يدافع عن رواية أن الجزائريين هم من بادروا بإطلاق النار على الشرطة، ولكنه
اكتفى بالقول “كانت عيونهم تلمع مثل المدافع الرشاشة”.
في الأيام التالية، تم تنظيم عدة وقفات تكريمية للضحايا. فقد نُقلت جثث المسلمين إلى مسجد باريس في 21 يوليو/تموز،
في نعوش مغطاة بالعلم الجزائري. وتم عرضها بدار عمال التعدين في باريس عقب جلسة ترحُم في قاعة العرض “سيرك دي
فير”.
أما موريس ليرو فقد تم تشييعه ودفنه بمقبرة بيرلاشيز، فيما تم نقلت جثث أربعة جزائريين لدفنها ببلادهم. والضحيتان
الأخريتان، دفنتا في فرنسا لعدم مطالبة أحد بهما، ولن يتم نقل رفاتهما إلى الجزائر إلا في سبتمبر/أيلول 2023.
مناضلو حركة انتصار الحريات الديمقراطية خلال مظاهرة في باريس. 1 مايو/أيار 1954. © أ ف ب.
رغم انعدام الأدلة، إلى أن “كذبة الدولة” بدأت تفرض نفسها في فرنسا مع فتح تحقيق قضائي بالقضية. “لكن التحقيق كان
موجها بوضوح ضد الجزائريين إذ أن القاضي استبعد شهادات المتظاهرين بذريعة أنها تفتقد للدقة والمصداقية، وفقا
لدانيال
كوبفرشتاين، في حين وثق شهادات الشرطة وكل من ادعى بأن الجزائريين كانوا عدائيين لتبرير فرضية الدفاع عن النفس”.
وقال المخرج: “أعلم الآن أن هذه شهادات زور، فقد أسرّ لي أحد عناصر الشرطة بأنه طُلب منهم القول إن الجزائريين
كانت
بحوزهم أسلحة نارية، فنحن أمام كذبة أمنية وقضائية في الوقت ذاته”. ومن دون مفاجأة، تم تبرئة كل عناصر الأمن
الضالعين في المجزرة، فيما رفض القضاء كل الدعوات التي رفعتها عائلة موريس ليرو من أجل الحصول على تعويضات.
طويت “صفحة” 14 يوليو/تموز 1953 بنهاية الشهر ذاته، خاصة أنه في 4 أغسطس/آب أصيبت فرنسا بالشلل جراء إضراب عام
بدعوة
من عمال البريد التابعين لنقابة “فورس أوفريير” (القوة العاملة) في مدينة بوردو، كما يقول دانيال كوبفرشتاين،
مشيرا
أن ذلك قد “ألقى غطاء” على المجزرة نهائيا. وفي 14 يوليو/تموز 1954 قررت السلطات عدم تنظيم العرض التقليدي الذي
يواكب عادة الاحتفالات بالعيد الوطني. وفي 2017، تم نصب لوحة تذكارية بساحة الأمة “ناسيون” تشهد مذاك الحين
مناسبات
تكريمية كل عام في 13 يوليو/تموز إحياء لذكرى الضحايا.
الخاتمة
اعتقال جزائري في باريس عقب تبادل إطلاق نار بين مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني ومناصري مصالي
الحاج. 15 مارس/آذار 1958. © أ ف ب.
بعد مرور نحو سبعين عاما على المأساة، لم يعد الاهتمام بها كما في السابق وبدأت الذكريات تتلاشى، وهو ما يثير
استياء عائلات الضحايا مثل أبناء موريس ليرو. ففي 21 سبتمبر/أيلول 1995، كتب أحد أبناء المناضل السابق
بالكونفدرالية
العامة للشغل في عمود “رسائل القراء” بنسخة الأحد لصحيفة “لومانيتيه”: “كل عام، وفيما يتمتع الناس بوقت الفرح،
أبحث
في لومانيتيه عن كلمة تدخل الدفء إلى قلبي. كل عام، زملاء والدي يقتلونه من جديد بسبب النسيان”.
وفي حين يطالب دانيال كوبفرشتاين بالاعتراف بما سمّاها “جريمة دولة”، يُذَكر إيمانويل بلونشار بأهمية تخليد ذاكرة
هؤلاء المتظاهرين الذين قتلوا قبل عام من اندلاع حرب التحرير الجزائرية وهو ما “حرمهم” من صفة الشهداء. يقول
المؤرخ:
“كل حدث تاريخي بحاجة إلى الذاكرة لكي يصبح رمزا، ولا يمكن للدولة أن تكون حاملة لهذه الذاكرة. صحيح أن الحركة
العمالية قامت بدورها في هذا المجال، لكن ما أنجزته توقف في تلك الفترة. كان بإمكان مناصري مصالي الحاج تكريم
ذاكرة
زملائهم لكنهم اختلفوا وتفرقوا، ودخلوا في صراعات دامية خلفت نحو خمسة آلاف قتيل بين 1955 و1962. أما حزب جبهة
التحرير الوطني والجزائريين بشكل عام، فليس بوسعهم أن يحملوا هذه الذاكرة، فلديهم كثير من القتلى لإحياء ذكراهم”.
بورتريه لموريس ليرو، أحد ضحايا مأساة 14 يوليو، مثبت في المكان الذي اعتاد فيه بيع “لومانيتيه” كل يوم أحد، يوليو 1953، ذاكرة لومانيتيه، أرشيف مقاطعة سين سان دوني”
الطفولة المحطمة لأبناء موريس ليرو
“لم أتمكن حتى الآن من طي صفحة الحداد على والدي”
موريس ليرو (83 عاما)، ابن موريس ليرو
موريس ليرو (صاحب الرقم 122 في الصورة) خلال نصف نهائي سباق 800 متر رجال خلال الألعاب
الأولمبية
بطوكيو، في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1964.
كان عمره 13 عاما عندما قتل والده موريس ليرو، النقابي في الكونفدرالية العامة للشغل (سي جي تي)، خلال استعراض 14
يوليو/تموز 1953. لم يتمكن من حضور مراسم تشييع والده لأنه كان في عطلة عند عرابيه في بايون (جنوب غرب فرنسا).
سنوات
بعد ذلك، كبر الفتى وصار رياضيا محترفا، مختصا في سباقات 800 متر. شارك موريس في الألعاب الأولمبية للعام 1964.
وإن
كان “فخورا بحمل ورفع اسم ولقب والده” إلا أنه يأسف كون الفرنسيين نسوا هذه المأساة. في الـ83 من عمره، لا تزال
مشاعر الحزن والألم قوية كلما يتحدث عن والده.
“14 يوليو/تموز ليس يوم احتفال بالنسبة لي. هذا التاريخ يثير لدي الكثير من الألم. لم أكن موجودا يومها. ففي تلك
الفترة، كانت هنالك عدد قليل من الإذاعات، نفس الأمر بالنسبة للصحف… ولا يوجد تلفزيون. لم أعلم بما حدث سوى لدى
عودتي إلى باريس بداية سبتمبر/أيلول. مراسم التشييع في مقبرة بيرلاشيز كانت قد أقيمت في غيابي… لم أتمكن يومها
من
الصلاة والترحم على قبر والدي. ذهبت بعدها برفقة والدتي إلى هناك.
لم نكن نملك شيئا. زواج شقيقتي (الكبرى في العائلة) توقف نهائيا، وأخي ترك مقاعد الدراسة. أما أنا، فتوجهت نحو
التدريب المهني. كان لابد أن نعمل جميعا. أعضاء منظمة “الإغاثة الشعبية” الإنسانية كانوا يأتون إلينا من وقت لآخر
ليقدموا بعض المال للوالدة… هكذا كانت حياتنا، حتى عادت أمي إلى مزاولة عملها.
كل 14 يوليو/تموز، الأصدقاء كانوا يذهبون للرقص وبذلك لا أحد كان يذهب للترحم على قبر والدي. عندما نفكر في
الأشخاص
الستة الآخرين الذين قتلوا ونُقلت جثامينهم إلى الجزائر… أتساءل كيف عاشت عائلاتهم الأمر؟ يؤسفني أنني لم أتمكن
من
مقابلتهم والحديث معهم.
نسينا 14 يوليو/تموز منذ فترة طويلة. عملت لمدة 27 عاما في قسم الأرشيف بصحيفة “لوموند”. هناك صفحة قديمة مكتوب
عليها: “سبعة قتلى يوم 14 يوليو: ستة جزائريين وفرنسي”. كانت هناك إضافة صغير ة تضم الأسماء. وانتهى الأمر هكذا،
منسيا. من أعطى التعليمات لهذا النسيان؟ وقتها، كان هنالك محامون لكنهم لم يقوموا بواجبهم كما ينبغي. اليوم، لا
أحد
يتحدث عن ذلك. أشكر دانيال (كوبفرشتاين) جزيل الشكر لإنجازه هذا الفيلم الوثائقي… لكن للأسف والدتي رحلت من دون
أن
تشاهده.
لا يمكنني المشاركة في الاحتفالات التكريمية. لم أتمكن من طي صفحة الحداد. لن أطويها أبدا”
“اغتيل والدي”
غي ليرو (87 عاما)، ابن موريس ليرو
كان عمره 17 عاما في 14 يوليو/تموز 1953. غي ليرو، الابن الأصغر لموريس ليرو، لم يكن بباريس عندما قتل والده. ذهب
لقضاء العطلة برفقة صديق له. لم يعلم بالأمر إلا في اليوم التالي عندما ذهب للعمل. طيلة سنوات، عمل جاهدا لإحياء
الذكرى من خلال نشره رسائل في الجرائد والصحف، لا سيما في نسخة الأحد لصحيفة “لومانيتيه”. كما شارك في عدة
احتفالات
تكريمية.
“كان والدي ضمن الجهاز المكلف بالأمن، عند أسفل المنصة. ذهب إلى رجال الشرطة ليطلب منهم وقف إطلاق النار. صوب شرطي
مسدسه لصدره وأطلق عليه رصاصة سكنت في القلب. ثيابه احترقت. والدي اغتيل. هذا الشرطي جاء ليطلق عليه النار
عمدا.
السنوات التي تبعت تلك المأساة كانت صعبة للغاية. في عمر الـ17 عاما، تجد نفسك رب عائلة. ليس بالأمر السهل. العمل
ستة أيام في الأسبوع، 11 ساعة باليوم، بأجر زهيد… الأمر كان صعبا جدا.
إنه ظلم. كنا نعرف من أطلق النار. الرصاص كان مرقما في تلك الفترة. كان لديهم اسم الشرطي، لكن تركوه حرا طليقا.
التحقيق القضائي انتهى برد الدعوى. إنها جريمة دولة. كان يجب الاعتراف. نشرت العديد من الرسائل في الصحف. كنت
ألومهم
على عدم الحديث عن 14 يوليو/تموز… حتى في يومية “لومانيتيه”.
مر سبعون عاما على المأساة، وما حدث دخل في غياهب النسيان. الأشخاص الذين كانوا في العشرين من عمرهم، كم أصبح
عمرهم
الآن؟ لو لم نتحدث عما جرى، ما كان لأحد أن يسمع بها. من حولنا، لا أحد كان يعلم ما حدث. أنا، لم أنس شيئا. ولن
أنسى
أبدا. الأمر يؤلمني… فكل 14 يوليو/تموز أتذكر ذلك. وحتى وإن عشت أوقاتا جميلة في حياتي إلا أنها لم تضمد جراحي
أبدا.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.