الاستشراق الحديث حول القرآن عبدالرحمن حللي الدراسات القرآنية
قال د. عبد الرحمن حللي، أستاذ التفسير والدراسات القرآنية المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، إن الاستشراق الحديث حول القرآن هو امتداد لمجمل الاتجاهات المركزية السابقة؛ يطوّر نظرياتها، وتطبيقاتها، ويوسّع فرضياتها، ويتجاوزها نسبيًّا في مناقشة مسائل لم تحظ بالدرس السابق.. لافتًا إلى أن المنظور الاستشراقي لم يعد حكرًا على المستشرقين، فأصبح لدينا منتج عربي حول القرآن الكريم منحط عن أصوله الاستشراقية، وأن الدراسات القرآنية في الغرب لم تعد حكرًا على المستشرقين، وأصبح يشارك فيها باحثون مسلمون غربيون أو مهاجرون.
والدكتور عبد الرحمن حللي عمل باحثًا مشاركًا ومحاضرًا في مركز الدراسات الإسلامية بجامعة فرانكفورت، وباحثًا زائرًا في جامعة برلين الحرة، وزميل مركز الدراسات العابرة للأقاليم في برلين، كان قبل ذلك أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة دمشق وجامعة حلب، وتقلد عددًا من المناصب الأكاديمية فيها. حصل على درجة الدكتوراه في الدراسات القرآنية من جامعة الزيتونة عام 2004م. وتشمل اهتماماته البحثية الدراسات القرآنية والتعليم الديني والفكر الإسلامي الحديث. كما نشر عددًا من الكتب والمقالات البحثية في المجلات المحكمة حول مسارات مختلفة من الدراسات الإسلامية، وله مشاركة واسعة في الصحف والمجلات العربية.. فإلى الحوار:
الاستشراق مر بمراحل كثيرة في تعامله مع القرآن الكريم.. ما أهم هذه المراحل؟
ثمة ثلاثة اتجاهات مركزية تطورت في الدراسات الاستشراقية حول القرآن الكريم؛ الأقدم منها هو البحث عن أصول القرآن الكريم، والقائم على فرضية الانتحال من الكتب السابقة، وكانت هموم أصحابه لاهوتية بالأساس، وهو الممهد للدراسات الاستشراقية اللاحقة.
ثم رأى اتجاه جديد فيها يتزعمه نولدكه أن دعوى الانتحال من الكتب السابقة لا تكفي لفهم القرآن، وأن هناك ما هو جديد فيه يرجع إلى زمنه؛ فتم الخوض في تأويل الوحي والنظر في النص القرآني بتحليل فيلولوجي يجمع اللغة والتاريخ والوثائق والأخبار. تطوَّر هذا الاتجاه لاحقًا ليوسع النظر التاريخي في المخطوطات، وفي النص نفسه مقارنة بينه وبين نصوص عصره، أو ما يعرف بالعصور الكلاسيكية المتأخرة.
أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه التنقيحي، الذي يعزو اكتمال النص إلى فترة حضارية لاحقة لعصر النبوة؛ وهو اتجاه انحسر مؤيدوه مع ظهور أدلة مادية تثبت خلافه. والهاجس الذي يجمع بين كل الاتجاهات، الإجابة عن سؤال ما مصدر القرآن غير أن يكون وحيًا بمفهوم المسلمين؟
وما جديد الاستشراق في الدراسات القرآنية؟
الاستشراق الحديث في العموم هو امتداد لمجمل الاتجاهات المركزية السابقة؛ يطور نظرياتها، وتطبيقاتها، ويوسع فرضياتها، ويتجاوزها نسبيًّا في مناقشة مسائل لم تحظ بالدرس السابق؛ فمثلًا ظهر الاهتمام بالسور المدنية، كما توسع البحث في تاريخ تلقي النص القرآني إسلاميًّا وسبل فهمه (التفسير)، أو تلقيه غربيًّا وذلك بالبحث في تأثيره في الفكر الأوربي والحداثة، أو انتشاره عالميًّا والتفاعل معه من خلال ترجماته؛ كما ظهرت دراسات ذات بعد لغوي أو أدبي لم تكن أسيرة بالضرورة لسؤال المصدر.
لكن بالمجمل يمكن القول إنه قد تشكل تراث غربي حول القرآن يمتد لقرون، مليء بالتناقض والفوضى، لكنه أصبح آسرًا للدراسات الاستشراقية الجديدة إلى حد كبير، فأضيفت الدراسات القرآنية إلى سلطة المركزية الغربية في المعرفة عمومًا.
المنظور الاستشراقي حول القرآن الكريم لم يعد حكرًا على المستشرقين
لكن ثمة أمران مهمان ينبغي التنبيه إليهما، الأول: أن المنظور الاستشراقي لم يعد حكرًا على المستشرقين؛ فأصبح لدينا منتج عربي حول القرآن الكريم منحط عن أصوله الاستشراقية، بل يسرق ما في الاستشراق ويعيد تقديمه وتطويره ويدعيه إنتاجًا علميًا مستقلًا، وهو خطاب طافح بالأيديولوجيا والمناضلة الفكرية للتغيير، بخلاف الخطاب الاستشراقي الذي لم يكن يحمل هم تغيير عقائد المسلمين في سياقه الأكاديمي، قبل أن يتم توظيفه لاحقًا عبر مؤسسات دينية أو فكرية أو سياسية. الأمر الثاني: أن الدراسات القرآنية في الغرب لم تعد حكرًا على المستشرقين، وأصبح يشارك فيها باحثون مسلمون غربيون أو مهاجرون، ودراساتهم غير أسيرة للمركزية الغربية الاستشراقية حول القرآن الكريم، فهم يستفيدون من المناهج الغربية وينجزون أبحاثًا ذات هموم معرفية فعلية.
تحاول بعض الكتابات أن تتجاوز مرحلة التشكيك في ثبوت النص القرآني، إلى مرحلة “التأويل” والقراءة المتعسفة.. كيف يمكن مواجهة ذلك؟
الاشتغال على المعنى القرآني مركزي في دراسة القرآن الكريم أيًا كانت وجهة نظر القارئ تجاه النص، والحكم بنزاهة هذا التأويل أو ذاك أو التعسف فيه قضية منفصلة عن موقف المؤول من النص. ومن حيث المبدأ، الكل مدعو لتدبر القرآن الكريم ودراسته، والتساؤل عن رسالته ورؤيته للعالم؛ فالمشركون في عصر النزول فهموا القرآن جيدًا وتذوقوا معانيه وبلاغته وأعربوا عن ذلك صراحة. وعليه، فالجهة منفكة بين عقيدة القارئ وصحة القراءة، مع التأكيد على تحقق شروطها، وامتلاك الكفاءة لفهم النص، وكم من قراءة معمقة ورصينة لموضوعات في القرآن الكريم أنجزها باحثون غير مسلمين. والعكس، فكم من قراءة متعسفة أنجزها مسلمون توسلت تأويلًا يوافق هواجس يتطلع إليها المؤول، نجد ذلك في التأويلات الباطنية القديمة، والقراءات الحداثية والمعاصرة.
أما الحكم بدقة قراءة ما أو تعسفها، فيتوقف على انضباطها بالحد الأدنى من المنهج والقواعد التي تفهم بها النصوص. وبطبيعة الحال ثمة فرق بين قراءة النص لفهمه، من أي راغب بذلك، وبين تفسيره للمسلمين للعمل به، وهذا الأخير لا يقوم به إلا الراسخون من المؤمنين من العلماء.
ولعلك تقصد بسؤالك، تلك القراءات التي تظهر بين حين وآخر لتخبر العرب بجهلهم بلغتهم التي تواترت معانيها على مدار القرون، وأن ما يفهمه المسلمون من معاني تلك الألفاظ المحفوظة والمكتوبة في مصادر كثيرة مبكرة ليس صحيحًا، وأن المعنى الصحيح لهذا اللفظ أو ذاك من ألفاظ القرآن هو شبيهه القريب منه في لغات أخرى اندثرت. أو تلك القراءات التي تكشف لنا أخطاء لغوية أو نحوية أو تركيبية في نظم القرآن الكريم، وتصححها لنا. وهذا ما نراه في الأردأ من الكتابات الاستشراقية، وله نظائر أشد رداءة في قراءات حداثية أو معاصرة أو تبشيرية؛ وهي قراءات لا تستحق الأخذ بجدية، ومع ذلك كثرت الردود عليها.
البعض، حتى من داخل الساحة الإسلامية، يتعامل مع القرآن الكريم في ضوء التعامل الغربي مع “الكتاب المقدس”.. كيف ترون ذلك منهجيًّا؟
تداخل العلوم والمناهج وتوظيفها في فهم القرآن الكريم أمر قائم ومشروع، ولا إشكال فيه من حيث المبدأ، حتى قال ابن عطية إن القرآن “لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه”؛ فحيث لاح أفق يعمق التدبر والفهم للقرآن الكريم فلا إشكال فيه من حيث المبدأ، لكن ذلك مشروط بأن تكون تلك العلوم أو المناهج تصلح للدرس القرآني وتنسجم حين إدخالها مع العلوم والأصول التي يستند إليها فهمه بالضرورة ولا يناقض مسلمات معروفة. وأن يكون توظيف تلك العلوم؛ لاستمداد المعنى وفهم الرؤية القرآنية، لا إلى هدمها والاحتيال عليها.
أما السؤال عن توظيف مناهج دراسة “الكتاب المقدس” في دراسة القرآن الكريم فهو سؤال عام تحتاج الإجابة عليه إلى تفصيل، ومن التفصيل الذي تنبغي الإشارة إليه أن دراسة “الكتاب المقدس” نفسها استفاد روادها في جوانب منها من النقد القرآني لتحريف الكتب السابقة، ومن نقد علماء المسلمين للأديان. ولا شك أن تطورات مهمة طرأت في الغرب في دراسة “الكتاب المقدس” عند اليهود والنصارى، لكن التوظيف العربي لهذه المناهج والدراسات كان انتقائيًا، وهو توظيف لمناهج لسانية بأبعاد لاهوتية، وهي في سياقها الغربي مما اقتضاه تطور النظر إلى الدين ومعرفتهم بطبيعة كتابهم التاريخية واختلافه وتطوره؛ وهذا ما يختلف عنه حال القرآن الكريم تاريخيًّا ولغويًّا وموضوعيًّا.
وتشير التجارب في توظيف هذه المناهج أنها عريضة الدعوى، بائسة عند التطبيق؛ ومن ناحية أخرى يتم توسلها لقول يراد، لا لمعنى يكتشف، وهي تقترض هذه المناهج لما فيها من تفويض للقارئ أن يقول في النص ما يرى، وبالتالي يصبح القارئ هو الأصل وتتعطل خاصية النص كرسالة من الله، إذ يصبح القارئ هو المصدر للمعنى، وبالتالي تتعطل الرؤية القرآنية وتحل مكانها رؤية المؤول الذي تعطيه الهرمنيوطيقا السلطة المطلقة.
إذا جئنا إلى “مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية”، الذي قمتم بمراجعة ترجمته.. ما أهم ما يضيفه هذا “المرجع” لحقل الدراسات القرآنية؟
يعد “مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية” المترجم حديثًا (صدر عن مركز نهوض 2024)، نموذجًا معبرًا عن تطور الدراسات الغربية للقرآن الكريم، والتحولات التي طرأت على الدراسات الاستشراقية، امتدادًا أو تطورًا أو تجاوزًا؛ ومن جهة أخرى يعد هذا المرجع، الذي أشرف على تحريره عالمان مسلمان يعملان في جامعات غربية، مرجعًا مهمًّا للقارئ العربي يعرِّفه بما انتهت إليها الدراسات الاستشراقية والغربية حول القرآن الكريم، فيفهمها كما كتبت بقلم أصحابها، وأسلوبهم، وسيجد فيه القارئ أيضًا بحوثًا قيمة جديدة، بعضها لعلماء مسلمين يكتبون بغير العربية أو يعملون في جامعات غربية، تناولت موضوعات نادرة، أو قضايا درست من زوايا جديدة، وأسئلة مختلفة، ومصادر غير معروفة للقراء العرب.
تداخل العلوم والمناهج وتوظيفها في فهم القرآن الكريم أمر قائم ومشروع
من جهة أخرى، تعد ترجمة هذا المرجع جَسْرًا للقطيعة اللغوية بين قراء العربية والدراسات الغربية حول القرآن الكريم، فالمنهجية العلمية تقتضي أن تُبنى التصورات من كتب أصحابها مباشرة ومن دون واسطة؛ كما يوفر خلاصة ما انتهت إليه خمسة عقود من الدراسات الغربية للقرآن، كما تعدُّ ترجمة الكتب المرجعية- كهذا المرجع- ترشيدًا لحركة الترجمة الحديثة لما تضيفه من معارف أكاديمية، وخبرة منهجية في النقد والمراجعة.
نود أن نتعرف على المحتوى العام لـ”مرجع الدراسات القرآنية”؟
يحتوي “المرجع” على ثمانية أبواب، تضمّ سبعًا وخمسين دراسة لكتَّابٍ مختلفين.
يتناول الباب الأول وضع الدراسات القرآنية، تعرض فصوله الأربعة الدراسات الأكاديمية وموقفها من القرآن، والتطورات الحديثة فيها، وخلاصة نظرة الدراسات الاستشراقية لأصول الإسلام والقرآن، وقائمة مسحية بأهم الدراسات حسب اتجاهاتها.
أما الباب الثاني فيتناول المحيط التاريخي للقرآن الكريم، في ستة فصول تتناول المظاهر الاجتماعية والدينية في عصر النزول، وفي السياق العربي تحديدًا، ومنها فصول خاصة باللغة، والقصص، واليهودية، والمسيحية.
ويتناول الباب الثالث في ستة فصول، النص القرآني نقلًا وجمعًا وقراءات، ومخطوطات ونقوشًا، ومصحفًا مطبوعًا.
أما الباب الرابع فيتناول في تسعة فصول الأبعاد البنيوية والأدبية للقرآن الكريم؛ كلغة القرآن، ومفرداته، ونظمه، وبلاغته، وترتيبه، وبنيته، وإعجازه، وصلته بالتقاليد الأدبية والشعر العربي.
وتدور فصول الباب الخامس التسعة حول موضوعات القرآن ومحاوره الكبرى؛ كالوحي والنبوة، والعقيدة، والشريعة، والأخلاق، والآخرة، والأنبياء، والسياسة، والجهاد، والمرأة.
فيما خصص الباب السادس “القرآن في ضوء السياق: الترجمة والثقافة” (في خمسة فصول) لترجمات القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة، وتناولِ القرآن بمعزل عن سياقه، والتقاليد الأدبية، والثقافة الشعبية في التعامل مع القرآن قديمًا وحديثًا.
أما الباب السابع في فصوله السبعة، فيتناول الدرس التفسيري للقرآن الكريم، في عصوره المختلفة وقضاياه.
فيما خُصص الباب الثامن والأخير في أحد عشر فصلًا، للخطابات التفسيرية والبنى والتأويل؛ كالتفسير الشيعي، والإسماعيلي، والإباضي، والصوفي، والكلامي، والفلسفي، والجمالي، والعلمي، والتأويلات المعاصرة. وقد جاء المرجع في 1695 صفحة، في مجلدين.
ما موقع هذا “المرجع” من حيث مخاطبة القارئ الغربي والعربي، ومخاطبة المتخصص وغير المتخصص؟
صُنع “المرجع” أساسًا للقارئ الغربي في الجامعات، فهو واحد من سلسلة كتب أكسفورد المرجعية، والتي تعد من أهم الكتب الأكاديمية في الجامعات الغربية، وهي كما تعرّف بنفسها تتضمن رصدًا موثوقًا ومحدَّثًا للبحوث الأصيلة في مجال موضوع معين؛ فتقدم مقالات علمية تم تكليف شخصيات بارزة وذات رؤى نقدية لإعدادها بشكل خاص لتكون من محتويات المرجع، وروعي في إعدادها أن ترصد المناقشات حول الموضوع واتجاهاتها، وأن تتوسم اتجاهات البحث المستقبلي في موضوعها، وهي موجهة بشكل أساسي للعلماء وطلاب الدراسات العليا.
وقد صدر من سلسلة كتب أكسفورد المرجعية عدد من الكتب في مجالات متخصصة من الدراسات الإسلامية؛ كالفقه وأصوله، وعلم الكلام، والحديث، إضافة إلى هذا المرجع في الدراسات القرآنية، وبالتالي فهو مدخل أكاديمي للمتخصص الغربي في دراسة القرآن الكريم، يحيل إليه أساتذة الجامعة لرصانة مادته، وشمولها، وتحكيمها علميًّا قبل نشرها.
“مرجع أكسفورد” نموذج معبر عن تطور الدراسات الغربية للقرآن الكريم
أما أهميته بالنسبة للقارئ العربي بعد ترجمته، فهي أنه يحيط الباحث المتخصص بما انتهت إليه الدراسات القرآنية الغربية، فيكون بذلك نوعًا من الاستغراب الذي غرضه فهم الحركة العلمية المتصلة بالقرآن الكريم في الجامعات الغربية، والأهم من ذلك ما يفتحه للباحث العربي من آفاق منهجية في الدراسات القرآنية، وأسئلة جديدة يمكن أن تكون محلًا لدراسات متخصصة، لم تكن محل اهتمام من قبل، كما أن بعض البحوث تقدم إضافة لكثير من الباحثين في موضوعاتها.
وأيًا كان القارئ متخصصًا أو غير متخصص ولديه طموح مشروع للاطلاع والقراءة، فإن القراءة الناقدة والبصيرة هي الأصل في كل ما يقرأه الإنسان؛ فثمة معلومات هي من قبيل التأريخ الذي يمكن التثبت منه بسهولة، وثمة أفكار هي أحكام وتأويلات يتوصل إليها الكاتب، وهذه ينبغي أن تكون محل تأمل ونظر. وثمة فرق بين أن يقرأ الإنسان ليطلع ويبحث ويوسع معارفه وآفاقه، وبين أن يقرأ ليعمل تدينًا، وفي هذه الحالة الأخيرة لا يصلح الكتاب مرجعًا فيها.
من المعروف أن القرآن الكريم كان، ولفترة طويلة، هدفًا لمطاعن المستشرقين، فكيف جاء هذا “المرجع” من حيث الإنصاف ودقة التناول؟
كما أشرت من قبل، “المرجع” يعكس حال الدراسات القرآنية الغربية، ففيه شيء من الاستشراق بأنواعه، وإن كان يغلب على الفصول ذات الصلة التأريخ والوصف، مع نزعة ظاهرة لدى كثير من المستشرقين المشاركين في الكتاب إلى تأكيدهم على تحييد الموقف الديني في دراستهم للقرآن، واعتبارهم ذلك شرطًا علميًّا. على أن أكثر فصول الكتاب لا يقتضي موضوعها اتخاذ موقف من القرآن الكريم أو التصريح به، فيما كتب علماء مسلمون فصولًا مهمة في الكتاب.
وبكل الأحوال، فإن القراءة النقدية والفاحصة هي التي تحقق الغرض منها، وهو مرجع أكاديمي للجامعيين ولا يعني عامة الناس، وإذا كان الجامعي لا يمتلك شخصية ناقدة لما يقرأ فتلك مصيبة في الموقع الذي انتهى إليه.
كيف ترون آفاق الدراسات القرآنية؟
الدراسات القرآنية، والدراسات الإسلامية عمومًا، يغلب عليها التكرار، واللجوء إلى المواضيع سهلة التناول وواضحة المسار، وتفتيق عناوين جديدة لموضوعات قديمة قُتلت بحثًا، أو إعادة إنتاج المعرفة بكلمات وأساليب حديثة، وإنتاج نصوص تقول كل شيء ولا تضيف شيئًا، والخلط بين مهام الباحث الذي ينتج المعرفة والكاتب الداعية والأديب الذي يكتب ليثقف الناس. والسبب في ذلك يرجع إلى ضعف التكوين المنهجي الذي يُعنى بطرح الأسئلة العميقة والمباشرة، والاكتفاء عن ذلك بشكليات المنهج التي يتدرب عليها الطلاب في مقررات مناهج البحث، وتحولها إلى مقصد لذاتها.
الدراسات القرآنية يغلب عليها التكرار واللجوء إلى المواضيع سهلة التناول
ومن آثار هذه الظاهرة الإقبال الواسع لدور النشر على الترجمة في العقدين الأخيرين، بحثًا عن الإضافة العلمية، وهي خطوة إيجابية بالعموم، لكن مخاطرها تتمثل في سيولة الترجمة وعدم التزام كثير من دور النشر بضوابط محكمة في الاختيار والتقييم للأعمال والمترجمين، ومخاطرها من جانب آخر أن تتخذ تلك الأعمال المترجمة نموذجًا وبديلًا لما يجب على الباحثين في الجامعات العربية الخوض فيه من قضايا؛ أما الجانب الإيجابي لهذه الترجمات فهو أن بعضها يمكن أن يسهم في تطوير الدراسات القرآنية إذا ما تم التعامل معها تعاملًا نقديًّا، والإفادة من الجانب المنهجي فيها في طرح الإشكال وزوايا المعالجة، والنظر في نفس القضايا من زوايا جديدة.
بوجه عام، أرى أن هناك تحولا بطيئًا في الدراسات القرآنية في معالجة أسئلة راهنة، أو إعادة النظر في قضايا قديمة من منظور مختلف. ومن شأن التعامل النقدي مع الأعمال المترجمة، أن يوسع هذه الآفاق باتجاه إيجابي.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.