نصر أبوزيد ومحاولة قراءة النص القرآني قراءة تاريخية

نصر أبوزيد ومحاولة قراءة النص القرآني قراءة تاريخية: والأخطر في هذا الاتجاه هو الدعوة إلى إخضاع النصوص، وقراءتها بالمنهج التاريخي، والقصد من هذا المنهج هو القضاء على صلاحية النص القرآني وعده ركامًا تاريخيًّا، وأثرًا قديمًا لا يصلح للواقع المتغير والمستجد (1) .
وعلى حد تعبير بعض الباحثين (2) أنَّ هذا يعني أنَّ النص القرآني ـ في مفهومهم ــ جاء استجابة للحظته التاريخية. إن القراءات الحداثية تسعى إلى إيجاد بدائل منهجية في قراءة النص، تمنح فيه السلطة لقارئ النص من أجل أن يمارس هذا القارئ سلطته على النص، حتى وإن كان لا يمتلك المعايير والقواعد التي يقرأ بها النص. ويجعل من النص ممرًّا، ومعبرًا لإيصال اختياراته، وقناعته وآرائه الشخصية لقارئ هذا النص، وذلك عن طريق مصادرة القواعد والأصول والمعايير التي ترجع في قراءة النصوص (3).
والمشكلة لدى نصر أبوزيد ليست أنَّه لم يتفهم مصطلحات القرآن فقط، بل إنَّه أيضًا لم يتفهم تاريخ المسلمين، وهو الأرضية التي نبت فيها فكر المسلمين واختلافاتهم، وبذلك تركز بحثه في السطح الخارجي للآراء، وكان أولى به وهو يؤمن بالظروف الاجتماعية والتاريخية للنصوص أن يتعمق في دراسة الواقع التاريخي والاجتماعي.
فالحقيقة أنَّ القرآن فوق التأثر التاريخي، وأنَّ فكر المسلمين هو النتاج الحقيقي لظروف المسلمين التاريخية، وبهذه المناسبة فإنَّ كتاب د. نصر أبوزيد عن الشافعي يقرر فيه أنَّ فلسفة الشافعي قد بناها على الصراع والعداء الذي قام بين الشافعي والدولة الأموية، والمؤلف يفترض أنَّ الشافعي قاوم الدولة الأموية وعانى من سطوتها، والمؤلف لا يدرك أنَّ الشافعي وُلِدَ بعد انهيار الدولة الأموية بثمانية عشر عامًا، إذ وُلِدَ الشافعي سنة 150هـ، وتُوُفِّيَ سنة 204هـ، خلال الدولة العباسية، فكيف تصارع والأمويين، وتأثر في فلسفته الوسطية بهذا الصراع؟! (4).
ومن أغرب ما قال أبوزيد: إنَّه يستخدم التأويل الواقعي المادي للوحي، فيقول: “إنَّ تفسير النبوة اعتمادًا على مفهوم الخيال معناه أنَّ ذلك انتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة، انتقال يتم من خلال فاعلية مخيلة الإنسانية، والتي تكون في الأنبياء بحكم أنَّ الصفاء والفطرة أقوى منهما عند سواهم من البشر، وإذا كانت فاعلية الخيال عند البشر العاديين لا تتبدى إلَّا في حالة النوم، وسكون الحواس عن الانشغال بنقل الانطباعات عن العالم الخارجي إلى الداخل فإنَّ الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على السواء، وليس معنى ذلك التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها، فالنبي على رأس قمة الترتيب يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب… والنبوة في هذا التصور لا تكون ظاهرة فوقية مفارقة، ويمكن فهم الانسلاخ أو الانخلاع في ظل هذا التصور على أساس أنَّه تجربة خاصة أو حالة من حالات الفعالية الأخلاقية، وهذا كله يؤكد أنَّ ظاهرة الوحي -القرآن- لَمْ تَكُنْ ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبًا عليه وتجاوزًا لقوانينه، بل كانت جزءًا من مفاهيم الثقافة ونابعة من موضوعاتها وتصوراتها”(5) .
والحقيقة أنَّ هذا الكلام لا يحتاج إلى رد ديني ولا حتى فلسفي متخصص؛ لأنَّه هرطقة وحشو فارغ واستخدام لذات المنهج الذي سنشير إليه، وهو استعمال ألفاظ توحي بسمو الفكرة وعقلانية من يُبديها فقط بهدف الوثب على ثوابت العقيدة وقدسية النص ومناهج تفسيره، ونلاحظ عليها:
- مع أنَّها أفكار تافهة، فهي تنزع القداسة تمامًا عن النص القرآني والوحي.
- أنَّها لا تفرق بين النبي والصوفي العارف أو الولي بتعبير العامة والشاعر من حيث الكيف والكم أو من حيث الثقافة، وهو وإنْ وضع النبي في المقدمة، فإنَّه يغفل أنَّ النبي سيدنا محمد كان أميًّا لا يقرأ فمن أين جاءته التصورات والمعرفة إنْ لَمْ تكنْ مُوحية إليه؟!
- أنَّ الحالة التي تنتاب الصوفي أو الشاعر حالة ذاتية تقوم على فيض مشاعر بشرية خُلقت فيه، أمَّا النبي فالحالة التي يمرُّ بها عند نزول الوحي هي حالة اتصال بالإله من خلال ملائكته، لا دور فيها للمشاعر والأحاسيس.
- النتيجة التي ننتهي إليها بحسب مقولاته أنَّه مثلما يأخذ ويرد من الشاعر والصوفي باعتبار أنَّ عمله وقوله عمل إنساني فيما يتعلق بكل أحواله بما فيها حالة الفيض أو الإلهام فإنَّه يمكن أن نرد بعض أقوال النبي، وهذا أمر غير جائز، ومخالف للعقيدة، فإنَّ النبي أي نبي -صلوات الله عليه وسلم- لا يرد ما أوحي إليه، ولا يملك هو أصلًا مراجعته؛ لأنَّه مجرد مُبلِّغ لرسالة منقولة إليه من الله، ولا صلة لها بالإلهام والمشاعر الداخلية البشرية.
- أخطر نتائج هذا الكلام، يتعلق بما قلناه في الملاحظة الأولى، أن مسألة الفارق الكمي أو الكيفي تجعل النبي، أو بالأحرى الوحي، حالة بشرية محضة؛ أي: أنسنة الوحي، وهذا ما قاله حسن حنفي وأركون وأولئك الذين يدعون أنَّهم معتزلة جدد.
وللأسف فإنَّ أبوزيد لم يقف عند هذا الحد، بل وصل به الأمر في مجال التأويل إلى أبعد من ذلك، فهو يقول:”إنَّ هذا التأويل الذي يحول الوحي إلى واقعة تاريخية، وإلى الطبيعة، وإلى خبرة بشرية، ونشاط ذهني، ويرد الميتافيزيقي إلى الفيزيقي، ويحول العلم الإلهي إلى علم إنساني إنْ لَمْ يَخْلُ من فائدة تتمثل فيما يحدثه من خلخلة في بنية الفكر الديني المسيطر والمستقر فإنَّه يكشف عن الطابع المتردد الذي يقع في التلوين بدلًا من التأويل، ويتعارض مع تاريخية الوحي… ثم ما الهدف والغاية من استمرار الوحي بكل ما يرتبط به من عقائد التوحيد والبعث والجزاء حتى بالمعنى المجازي الوحي الطبيعي” (6).
لاحظ أولًا كمية التعبيرات والمصطلحات الجديدة على فقه التفسير الإسلامي العربي، ولا أدري أيضًا ما معنى الوحي الطبيعي! فالمقابل اللغوي بالتأكيد هو الوحي الاصطناعي أو المصطنع، ولا أدري معنى السؤال الذي يطرحه أبوزيد بقوله:”ما الهدف والغاية من استمرار الوحي بكل ما يرتبط به من عقائد التوحيد والبعث والجزاء حتى بالمعنى المجازي الوحي الطبيعي؟”، ولكن يمكن أن نسأل “وما الهدف من إلغاء الوحي بكل ما يرتبط به من عقائد التوحيد والبعث والجزاء حتى بالمعنى المجازي الوحي الطبيعي؟”، فهو يقدم سؤالًا لا يجيب عنه. وقد تكفل بالإجابة عنه الدكتور محمد عمارة وأؤيده فيما فهمه؛ إذ يقول: “المطلوب في هذا التأويل العبثي هو إلغاء عقائد التوحيد والبعث والجزاء حتى ولو كانت مجرد فكر إنساني” (7).
على صعيد آخر، يطرح الاستخدام العربي للهرميونطيقا على مستوى النَّقد المنهجي والتطويع الإجرائي في مجال فهم القرآن الكريم وتفسير آياته العديد من التساؤلات؛ لماذا يعد نصر حامد أبوزيد القرآن منتجًا ثقافيًّا عندما يوظِّف العنصر التاريخي في الفهم؟ في وقت تمثل فيه الآيات التي نزلت لسبب معين جزءًا ضئيلًا جدًّا من القرآن مقارنة بالآيات التي نزلت ابتداءً من غير سبب ولعلة؟ (8)
إنّ ما أسلفناه سابقًا عن هذا الاتجاه لا يفرّق بين مستويات الخطاب القرآنيّ وتفرده وتعدد الأساليب والمضامين، فهو نصّ يتضمن خطابات جامدة وأخرى مرنة في الفهم والتفسير والتأويل، وحتى تلك الجامدة القطعية في الدلالة ارتبطت فى تطبيقها بعلّة الحكم، ولم توضع جامدة لتطبَّق بجمود يؤدي إلى عدم احترام الإنسان وإهدار العدالة الإلهيّة، فهناك نصوص تضمّنت حد السرقة بصورة قاطعة، ولا تقبل تأويلًا، ولكنّها لم تطبق فى ظرف تاريخيّ ليس بسبب هذا الظرف مجردًا، وإنّما لانتفاء العلة من تطبيقها.
هنا تثور مشكلة «التاريخية» تلك الفكرة أو الأساس الثاني الذي ترتكز عليه نظرية أبوزيد حيث (9) يؤسس أبوزيد التاريخية بتوضيح أنَّ البعد التاريخي للنصوص ” لا ينصرف فحسب إلى ما تشير إليه كتابات السلف من تفاعل للنص مع الواقع عبر نقاط تماس، مثل: أسباب النزول، أو علم الناسخ والمنسوخ، وإنَّما عبر وعاء ضخم هو اللغة ومفاهيمها، إنَّ النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية، بمعنى أنَّها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم إنتاجها طبقًا لقوانين تلك الثقافة التي تُعَدُّ اللغة نظامها الدلالي المركزي” (10).
وهو يقول أيضًا:” فالقرآن وهو نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث إنه يتعرض له العقل الإنساني يصبح مفهومًا يفقد صفة الثبات، وتتعدد دلالاته، إن الثبات من صفات المطلق والمقدس، أمَّا الإنساني فهو نسبي متغير. والقرآن مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهومًا بالنسبي والمتغير؛ أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني يتأنسن” (11).
وهذه (الأنسنة) تتداعى بصورة فجة.. فنلاحظ اعتبار السنة تأويلًا زمنيًّا (12) ، ونلاحظ مثل مسايرة القرآن للثقافة العربية فيما يتعلق بالجن (13).
ويعرض منهجه في تحليل النص القرآني في التأويل التاريخى، “بمعنى أنَّ دلالتها لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءًا منه يجعل من اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل” (14).
ويحدد منهجه فيما سمَّاه (منهج القراءة السياقية) في كتابه (دوائر الخوف) (15)، وخلاصته: التمييز بين المعاني والدلالات التاريخية المستنبطة من السياق من ناحية، وبين المغزى الذي يدلُّ عليه المعنى في السياق التاريخي- الاجتماعي للتفسير؛ أي في زمن المفسر من ناحية أخرى.
ويقول أبوزيد: “إنَّ البحث عن المقصد من خلال العرضي والمتغير هو الكفيل بتقديم قراءة مشروعة للنصوص الدينية، قراءة موضوعية بالمعنى النسبي التاريخي؛ ذلك أنَّه مع تغيّر الظروف والملابسات والأحوال… نحتاج إلى قراءة جديدة تنطلق من أساس ثابت هو المقصد الجوهري للشريعة” (16).
ويمكن تلخيص منهج أبوزيد في قراءة النص القرآني فهو ينادي بمشروع ينقل الإصلاح الديني إلى داخل النص القرآني نفسه؛ وذلك بإعادة قراءة النص قراءة تاريخية، فالإمكانية الوحيدة لإصلاح حقيقي في الإسلام- في زعمه – تكمن في فهم تاريخي للقرآن، فهو يشير إلى أنَّ القرآن ليس بنص جامد يحتوي على تشريعات قانونية جاهزة وصالحة لكل الأمكنة والأزمنة، بل يجب النظر إليه كخطاب ديناميكي متعلق بالحاجات الإنسانية في مكان وزمان محددين، فهو يحتوي على كل من قيم كونية وتطبيقات تاريخية لهذه القيم، وإذا ما أردنا معرفة الحكمة وراء هذه التطبيقات يجب علينا أن ندرس السياق التاريخي، وكمثال على هذا الطرح يذكر أبوزيد الآية التي تمنح المرأة نصف الميراث الذي يحصل عليه الرجل، ويحاجج أبوزيد بالقول إنه بالنظر لهذه الآية في سياقها التاريخي فإنَّها تعد في الواقع خطوة كبرى إلى الأمام؛ لأنَّه قبل ذلك الوقت لَمْ يَكُنْ للمرأة الحق في أي شيء على الإطلاق؛ لذا فإذا ما طبقنا المقصد الكامن لهذه الآية في وقتنا الحاضر، فسنجد أنَّها تشير إلى أننا يجب أن نعد الرجل والمرأة متساويين كليًّا أمام القانون (17).
إنَّ الذي يريده أبوزيد من وراء قراءته ليس القراءة الذاتية للنص القرآني من خلال مناهج التفسير التي اجتهد في وضعها علماء المسلمين وفقهاؤهم وعلماء المفسرين، وهي مناهج ترقى إلى أعظم المناهج العلمية، ولكن أبوزيد يغفل ذلك كله من أجل إخضاع النص القرآني للمناهج الغربية ليصل بها لمفاهيم الحضارة الغربية التي قد تتناقض تمامًا مع القطعي من نصوص القرآن، فالنتيجة المنطقية لأنسنة النص هي نزع القداسة؛ ومِنْ ثَمَّ عدم الإلزام بالقطعي، لا في ثبوته، ولا في دلالته. أما نتيجة تاريخية النص فهي عدم صلاحيته لكل زمان ومكان وإمكانية تغيير ماتضمنه من أحكام بحسب ظروف الواقع والمجتمع والثقافة والبيئة، وهي نتائج نحن في غنى عن إيضاح مدى شذوذها، وأنها تهدم الدين رأسًا على عقب.
هل أصبحت الغاية هي أن نخلق تبعية للغرب، وأن نقول إن ما لدينا هو ما لديه؟
إنها عقدة الثقافة الغربية وإهمال للفكر الإسلامي ووصول إلى نتائج شاذة مفرطة في الهوية الفكرية، وترسخ التبعية للفلسفات الغربية والمفاهيم من خلال اتباع مناهج غريبة عن طبيعة النص القرآني المقدس.إنها تبعية ليست على حساب الثقافة فقط، بل لاشك أنها على حساب العقيدة والدين. وفى النهاية فهى اعدام حقيقى للهوية ونفى للذات الاسلامية والعربية .
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.