ما يهم المسلم

الإسلام والتنمية الاجتماعية: رؤية إسلامية للتنمية الشاملة


شهد العالم الحديث طفرة هائلة في مجالات التنمية المادية، مدفوعة بالتقدم العلمي والتقني غير المسبوق. هذه التنمية، التي ارتكزت في معظمها على المناهج المادية البحتة، حققت مستويات عالية من الرفاهية المادية في بعض المجتمعات، ونجحت في القضاء على الكثير من مظاهر الجهل والمرض والفقر. ومع ذلك، لم تكن هذه التنمية الشاملة بالمعنى الحقيقي، بل تركت فراغاً مخيفاً في الجوانب الروحية والأخلاقية والاجتماعية للإنسان، مما أدى إلى ظهور أزمات نفسية واجتماعية وأخلاقية عميقة في المجتمعات المتقدمة [1].

في خضم هذا الجدل الفكري حول قصور النموذج التنموي الغربي، يأتي كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية” للدكتور محسن عبد الحميد ليقدم رؤية بديلة ومنهجاً متكاملاً للتنمية، يستمد أصوله من الفكر الإسلامي. يقدم الكتاب تحليلاً نقدياً للتنمية الحديثة، ويؤكد على أن الحاجات الإنسانية ليست مادية فحسب، بل هي شاملة تمتد لتشمل الدوافع المعنوية والروحية التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات [2].

يعد كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية”، الذي صدر في طبعات متعددة عن مؤسسات فكرية مرموقة كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي [3]، مساهمة جادة في إثراء المكتبة العربية والإسلامية، حيث يسعى إلى تأصيل مفهوم التنمية في إطار الشريعة الإسلامية، مبيناً كيف يمكن للنظم الإسلامية أن تكون القاطرة لتحقيق تنمية اجتماعية حقيقية ومستدامة.

المحور الأول: نقد التنمية المادية وقصورها

ينطلق الدكتور محسن عبد الحميد في كتابه “الإسلام والتنمية الاجتماعية”من فرضية أساسية مفادها أن التنمية الحديثة، التي اعتمدت على المناهج المادية وحدها، لم تستطع أن تحترم الإنسان أو تعرفه معرفة حقيقية [2]. لقد ركزت هذه التنمية على الجانب المادي من حياة البشر، متجاهلة الجانب الروحي والأخلاقي، مما أدى إلى نتائج عكسية على المستوى الإنساني والاجتماعي.

أزمة الفراغ الروحي والأخلاقي

يشير المؤلف إلى أن التنمية الحضارية الحديثة، بقدر ما خدمت الإنسان مادياً، سببت له أزمات نفسية وروحية واجتماعية وأخلاقية في غاية الخطورة. هذه الأزمات نابعة من الفراغ الروحي الذي خلفه غياب البعد المعنوي في معادلة التنمية. فالحاجات الإنسانية، كما يوضح كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية”، شاملة، ولا يمكن إشباعها بالرفاهية المادية وحدها. إن إهمال الجانب المعنوي، الذي يمثل أخص خصائص الإنسان، يجعله يعيش حالة من الاغتراب والضياع، حتى في أوج تقدمه المادي.

التنمية الجزئية مقابل التنمية الشاملة

يؤكد كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية” على أن التنمية الحديثة لم تأخذ مداها الإنساني الشامل والكامل، لا في المظهر ولا في العمق. لقد كانت تنمية جزئية، ركزت على “التنمية الاقتصادية” و”التنمية السياسية” بمعزل عن “التنمية الاجتماعية” و”التنمية الروحية”. هذا التجزؤ أدى إلى اختلال في التوازن المجتمعي، حيث تقدمت بعض الجوانب على حساب جوانب أخرى، مما أفرز مجتمعات تعاني من التفكك الأسري، والجريمة، والأمراض النفسية، رغم ثرائها المادي.

المحور الثاني: المفهوم الإسلامي للتنمية الاجتماعية

يقدم كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية” المفهوم الإسلامي للتنمية كبديل متكامل وشامل، يهدف إلى تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. التنمية في الإسلام ليست مجرد زيادة في الناتج القومي أو تحسين في مستوى المعيشة، بل هي عملية حضارية متكاملة تشمل الفرد والمجتمع، والمادة والروح.

الشمولية والتوازن والعدالة

يمكن تلخيص خصائص التنمية في الإسلام، كما يطرحها كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية”، في ثلاثة مبادئ رئيسية [4]:

المبدأ الوصف الأثر على التنمية الاجتماعية
  الشمولية   تشمل الجوانب المادية والروحية، والفرد والمجتمع، والحياة الدنيا والآخرة. تضمن عدم إهمال أي جانب من جوانب حياة الإنسان، وتحقق التوازن بين الروح والجسد.
  التوازن   تحقيق التوازن بين متطلبات الفرد ومتطلبات الجماعة، وبين الحقوق والواجبات. تمنع طغيان المصلحة الفردية على المصلحة العامة، وتكفل التكافل الاجتماعي.
  العدالة   توزيع عادل للثروة والفرص، ومحاربة الفقر والاستغلال. تخلق مجتمعاً متماسكاً خالياً من الحقد الطبقي، وتضمن كرامة جميع أفراده.

الإنسان محور التنمية

يضع الإسلام الإنسان في محور عملية التنمية، بوصفه خليفة الله في الأرض. هذا التكريم الإلهي للإنسان يفرض عليه مسؤولية إعمار الأرض وتحقيق التنمية، لكن وفقاً لمنهج إلهي يضمن له السعادة الحقيقية. التنمية الاجتماعية في الإسلام هي تحرك المجتمع المنظم والواعي نحو الأفضل إنسانياً، على الصعيدين المادي والمعنوي [5].

المحور الثالث: دور النظم الإسلامية في تحقيق التنمية

يتعمق كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية” في تحليل دور النظم الإسلامية المختلفة في دفع عجلة التنمية الاجتماعية. هذه النظم ليست مجرد قواعد تنظيمية، بل هي إطار متكامل يضمن تحقيق الأهداف التنموية الشاملة.

1. النظام الاجتماعي الإسلامي

يركز النظام الاجتماعي الإسلامي على بناء الفرد الصالح والأسرة المتماسكة، ويعتبرهما اللبنة الأساسية للمجتمع التنموي. من أهم آليات هذا النظام في تحقيق التنمية:

كتاب إسلامي ملون بعنوان "الإسلام والفكر المعاصر"، يظهر بتصميم جذاب وألوان زاهية. الكتاب يحمل غلافًا أخضر مع رسومات هندسية ونصوص عربية، يعكس موضوعاته المتعلقة بالثقافة والفكر الإسلامي.
غلاف كتاب “الإسلام والتنمية الإجتماعية”

•التكافل الاجتماعي: من خلال الزكاة والصدقات والأوقاف، يضمن الإسلام حداً أدنى من العيش الكريم لجميع أفراد المجتمع، مما يقلل من الفوارق الطبقية ويحفز على العمل والإنتاج.

•الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يمثل هذا المبدأ آلية للرقابة الذاتية والمجتمعية، تحافظ على توازن المجتمع وتبعده عن الانحراف والسقوط، وهو ما يمثل حماية للمكتسبات التنموية [6].

•الأسرة: تعتبر الأسرة هي المؤسسة الأولى للتنشئة الاجتماعية، وضمان استقرارها هو ضمان لاستقرار المجتمع، وبالتالي استدامة التنمية.

2. النظام الاقتصادي الإسلامي

يقوم النظام الاقتصادي الإسلامي على مبادئ تخدم التنمية الاجتماعية بشكل مباشر:

•تحريم الربا: يوجه الأموال نحو الاستثمار الحقيقي والإنتاج بدلاً من التداول المالي القائم على المضاربة، مما يخلق فرص عمل ويزيد من الثروة الحقيقية للمجتمع.

•تحقيق العدالة في التوزيع: من خلال آليات الميراث والزكاة وتحريم الاحتكار، يضمن النظام الاقتصادي الإسلامي توزيعاً أكثر عدالة للثروة، مما يقلل من الفقر ويزيد من القوة الشرائية لأفراد المجتمع.

•الحث على العمل والإنتاج: يعتبر الإسلام العمل عبادة، ويحث على إتقانه، مما يرفع من مستوى الإنتاجية والكفاءة، وهما ركيزتان أساسيتان لأي تنمية [7].

3. النظام السياسي والقضائي الإسلامي

يؤكد الكتاب على أن التنمية لا يمكن أن تتحقق في غياب العدل والاستقرار السياسي. النظام السياسي الإسلامي، القائم على مبدأ الشورى والمسؤولية، يهدف إلى تحقيق مصالح الأمة. أما النظام القضائي، فيضمن حماية الحقوق والممتلكات، وهو ما يشجع على الاستثمار والابتكار، ويعد أساساً متيناً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

المحور الرابع: منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام

يتطرق كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية”، بشكل ضمني أو صريح، إلى منهج التغيير الاجتماعي الذي يقترحه الإسلام لتحقيق التنمية. هذا المنهج يبدأ من تغيير الفرد وينتهي بتغيير المجتمع.

“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد: 11)

صورة مقال الإسلام والتنمية الاجتماعية: رؤية إسلامية للتنمية الشاملة
د محسن عبد الحميد مؤلف كتاب “الإسلام والتنمية الإجتماعية”

هذه الآية الكريمة هي جوهر منهج التغيير. فالتنمية الاجتماعية الحقيقية تبدأ من الداخل، من إصلاح الفرد وتزكية نفسه، وغرس القيم الإيجابية مثل الإتقان، والمسؤولية، والتعاون، والعدل. عندما يتغير الأفراد، يتغير المجتمع تلقائياً.

ويعتبر المؤلف أن المثقف الإسلامي يقع على عاتقه مسؤولية كبيرة في قيادة هذا التغيير، من خلال تقديم الرؤية الإسلامية للتنمية وتفنيد النماذج القاصرة [8].

نحو تنمية إنسانية مستدامة

يمثل كتاب “الإسلام والتنمية الاجتماعية” “الإسلام والتنمية الاجتماعية” للدكتور محسن عبد الحميد دعوة قوية لإعادة النظر في مفهوم التنمية، والانتقال من التنمية المادية الجزئية إلى التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة، التي تتوافق مع الفطرة الإنسانية وتلبي حاجاتها الروحية والمادية معاً.

لقد نجح المؤلف في تقديم إطار نظري متين يربط بين أصالة المنهج الإسلامي وحيوية قضايا العصر، مؤكداً أن الإسلام ليس مجرد دين عبادات، بل هو نظام حياة متكامل يمتلك المقومات الكفيلة بتحقيق نهضة حضارية شاملة. إن تطبيق هذه الرؤية التنموية، التي ترتكز على العدل، الشمولية، والتوازن، هو الطريق نحو بناء مجتمعات إسلامية قادرة على مواجهة تحديات العصر، وتحقيق السعادة والكرامة لأفرادها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى