الصلوات الفائتة
تُظهر الشريعة الإسلامية رحمتها ومرونتها في أحكام العبادات خاصة في الظروف الاستثنائية ومن هذه الأحكام حالات لا يجب فيها ترتيب الصلوات الفائتة. في ظروف معينة، يسمح للمسلم قضاء الصلوات الفائتة دون التقيّد بالترتيب، مراعاةً للواقع وتخفيفًا عن المكلّف. اكتشف في هذا المقال هذه الحالات التي تعكس جمال التيسير في الإسلام.
العبادات بجميع أنواعها إما أن تكون دائمة أو مؤقتة، فالعبادات الدائمة منها ما كان على سبيل الوجوب مثل: بر الوالدين وصلة الأرحام وحفظ الأمانة وغيرها، أو ما كان على سبيل الندب كالأذكار والأدعية والإحسان إلى الآخرين ونحوها، وهذا النوع من العبادة غير المؤقتة يدخل في حيز الأداء الدائم. وأما العبادات المؤقتة، فلا تخلو من كونها ذات وقتين – وقت الأداء ووقت القضاء – كالصلوات الخمس المفروضة، أو ليس لها إلا وقت الأداء فقط كصلاة الجمعة والعيدين.
معنى الأداء والقضاء في العبادات
الأداء: هو الإتيان بالعبادة الواجبة وفعلها في وقتها المحدد شرعًا، ولا يصح فعلها قبل الوقت، وكذا لا يجوز تأخيرها عن وقتها من غير عذر، ومثالًا: وقت صلاة الظهر ما بين زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، فمن صلى الظهر بين هذه المدة فقد صلاها أداءً. القضاء: ضد الأداء، أي وقوع العبادة الواجبة خارج وقتها، مثل الذي صلى العصر بعد غروب الشمس، يقال فيه: صلاها قضاءً. وثمة تفاصيل أخرى في كتب الفقه والأصول حول مفهوم الأداء والقضاء، وهما مصطلحان متعلقان بالعبادات المؤقتة.
الترتيب بين قضاء الصلوات الفائتة والحاضرة
الأصل في قضاء الصلوات وجوب الترتيب بين الصلوات الفائتة والصلوات الحاضرة، فعن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، وجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كدت أن أصلي، حتى كادت الشمس أن تغرب، قال النبي ﷺ:” والله ما صليتها” فنزلنا مع النبي ﷺ بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب [1].
وعن أبي سعيد قال: حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل كفينا، وذلك قول الله عز وجل: {وكفى الله المومنين القتال وكان الله قويا عزيزا} قال: فدعا رسول الله ﷺ بلالا فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك. قال: وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف … {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} .[2]
وروي عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا النبي ﷺ يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، قال: ” فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء” [3].
وعلى ضوء هذه الأحاديث، ذهب أكثر العلماء إلى وجوب الترتيب بين الصلوات المقضية والوقتية، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قضى أربع صلوات في يوم الخندق مرتبة كالأداء، وقد بوَّب البخاري على حديث جابر فقال:” باب قضاء الصلاة، الأولى فالأولى” مرتبة. وجنح الشافعية ومن معهم إلى القول بالاستحباب “لأنها عبادات مستقلة، والترتيب فيها من توابع الوقت وضروراته فلا يعتبر في القضاء كصوم أيام رمضان.
والمصير إلى القول بالوجوب أولى من الاستحباب لظاهر حديث الباب ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام:” صلوا كما رأيتموني أصلي” وتقرر أنه لا يجوز العدول عن أمره ﷺ ما لم يصرفه صارف عن الوجوب، فيبقى قضاء الصلوات الفائتة على وجوب الترتيب تخريجًا على صنيع النبي ﷺ يوم الخندق، ويلحق بهذا الترجيح مسألة من تذكر الصلاة الفائتة في أثناء فريضة الوقت، أنه يجب عليه الانصراف عنها أو يجعلها نافلة، ثم يقضي الفائتة، ثم يصلي الحاضرة، لقول ابن عمر: “من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فإذا سلم الإمام فليصل الصلاة التي نسي ثم ليصل بعدها الأخرى” مراعاةً لوجوب الترتيب، وهذا يدل على أن الأصل في قضاء الفوائت وجوب الترتيب إلا في الحالات الخمس الآتية.
5 حالات لا يجب فيها الترتيب بين الصلوات الفائتة
- الحالة الأولى عند النسيان : النسيان والخطأ من المعفوات عنها في أصول الدين رحمة للعباد، ورفقاً بهم، وتيسيراً عليهم، كما في صريح القرآن الكريم { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ( الأحزاب :5 )، ودل على أن ما صدر عن المكلف خطئا أو نسيانا من غير التعمد فلا يؤاخذ به، وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه[4] فخاتم سورة البقرة شاهد على هذا المعنى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (البقرة: 286)، وفي الحديث أن الله تعالى قال:” قد فعلت [5] ، وأفادت هذه الأدلة العامة على عدم وجوب ترتيب الصلوات الفائتة في حق الناسي، كما هو مذهب جمع من أهل العلم والحنفية والحنابلة. بل ورد الدليل الخاص ينص على أن وقت صلاة الناسي عند تذكره دون النظر إلى الترتيب، قال عليه الصلاة والسلام: إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها “[6] لو تذكر أن عليه صلاة العصر بعد أن صلى المغرب فإنه يأتي بالعصر ولا يعيد المغرب مرة أخرى على الصحيح. ويلحق بالنسيان الجهل لأنهما سيان في نصوص الشرع، وعليه، فلا يؤمر الجاهل بوجوب الترتيب بالإعادة، وهذا اختيار أبى العباس ابن تيمية.
- الحالة الثانية عند ضيق الوقت : القاعدة الحاكمة عند تزاحم العبادات هي النظر والمرعاة للأصلح منها فتقدم، أي لو توارد العبادات الواجبة في وقت واحد فإنه يبدأ بالأوجب والأنسب بالوقت، وفي مسألة الباب، حيث لو تزاحمت الصلاة الفائتة وقتها مع الحاضرة وقتها ولا يسع الوقت إلا للواحدة، فهنا تقدم الحاضرة على الفائتة مرعاة لمصلحة الوقت، ولا ينظر إلى وجوب الترتيب. من استيقظ في وقت خروج وقت صلاة العصر ولم يصل الظهر بعد، فإنه يؤمر بأن يصلى العصر الحاضر ثم يصلى الظهر الفائت، لأن مصلحة مراعاة واجب أداء صلاة العصر في وقته قبل صلاة الظهر الفائتة أولى من إيقاع الصلاتين قضاءً من أجل مراعاة وجوب الترتيب. قال أبو العباس ابن تيمية:” والمشهور من الرواية عن الإمام أحمد أن الترتيب يسقط بضيق الوقت، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه[7].
- الحالة الثالثة عند خوف فوات الجماعة : إذا اتفق وجوب ترتيب الفوائت مع وجوب حضور صلاة الجماعة الحاضرة، كمن عليه الظهر وحضر المسجد والناس يصلون العصر أو خشي فوات الجماعة لو قضى ما عليه من الصلاة، والراجح في هذه الحالة تقديم الحاضرة على الفائتة نظرا لأهمية صلاة الجماعة وللنهي الوارد عن الانفراد بالصلاة دون الجماعة، كحديث “إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة”[8] وما جاء عن مالك ابن بحينة، أن رسول الله ﷺ مر برجل يصلي، وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا أحطنا نقول: ماذا قال لك رسول الله ﷺ؟ قال: قال لي: “يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا” [9]. وعن عبد الله بن سرجس، قال: دخل رجل المسجد ورسول الله ﷺ في صلاة الغداة، فصلى ركعتين في جانب المسجد، ثم دخل مع رسول الله ﷺ، فلما سلم رسول الله ﷺ، قال: «يا فلان بأي الصلاتين اعتددت؟ أبصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا؟ [10]. ودلت هذه المواقف النبوية على أرجحية القول بعدم الانفراد بالصلاة الفائتة عن الجماعة القائمة، بل يسقط وجوب الترتيب وخاصة عند تخوف فوات إدراك صلاة الجماعة. وسئل أبو العباس ابن تيمية عن رجل فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت، فهل يصلي الفائتة قبل المغرب أم لا؟ فأجاب: ” الحمد لله رب العالمين. بل يصلي المغرب مع الإمام ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، لكن هل يعيد المغرب؟
فيه قولان:
- أحدهما: يعيد، وهو قول ابن عمر، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه.
- والثاني: لا يعيد المغرب. وهو قول ابن عباس، وقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصح. فإن الله لم يوجب على العبد أن يصلي الصلاة مرتين، إذا اتقى الله ما استطاع. والله أعلم “.[11]
- الحالة الرابعة عند خوف فوات الجمعة: صلاة الجمعة من العبادات التي إذا فات محلها لا يستدرك، وليست لها إلا وقت الأداء فقط ولا قضاء لها، ولذا كان حكم من فاتته الجمعة أنه يلزمه أن ينتقل إلى صلاة الظهر بدلا، فينوي الظهر بدلا من الجمعة. ومن كان عليه فائتة الفجر مثلا، وجاء إلى المسجد فوجد الجعمة قد أقيمت فإنه يصلي الجمعة ثم يصلي بعدها صلاة الفجر حتى لا يفوت وقت الجمعة. وهذا الذي عليه أهل العلم من الشافعية والحنابلة وغيرهم. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: عند إقامة صلاة الجمعة تذكرت أني لم أصل الصبح، فهل أدخل معهم الصلاة بنية الصبح، أم بنية الجمعة ثم أقضي الصبح أم ماذا أفعل؟ وماذا لو تذكرت ذلك أثناء صلاة الجمعة؟ فأجابت: إذا أقيمت صلاة الجمعة وتذكر الإنسان أنه لم يصل صلاة الصبح فإنه يصلي الجمعة، ثم يقضي صلاة الصبح بعدها، ويغتفر هنا وجوب الترتيب، كما نص على ذلك جماعة من أهل العلم، وهكذا إذا ذكر وهو في صلاة الجمعة، فإنه يستمر فيها ثم يصلي الصبح بعد ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم [12].
- الحالة الخامسة عند كثرة الصلوات الفائتة (الفوائت) : يسقط وجوب الترتيب عند كثرة الفوائت لما فيه من الحرج والمشقة، كمن عليه أكثر من صلاة يوم وليلة، فمثله لا يتعين عليه الترتيب في هذه الحالة، وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم، وإن كان الترتيب مستحبا في نفس الفوائت، فيبدأ بالظهر ثم العصر وهكذا إلى آخر بقية الصلوات، وهذا لمن استطاع ذلك وإلا فلا. ورد في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني أن” من عليه صلوات كثيرة، سواء نسيها، أو نام عنها، أو تعمد تركها، صلاها -أي قضاها- في كل وقت، من ليل، أو نهار، وعند طلوع الشمس، وعند غروبها”[13] حسب الوقت المتاح ولو في أوقات النهي.
تنبيه
لا يجوز التسويف في قضاء الفوائت بل يجب أدائها على الفور لقوله عليه الصلاة والسلام:” من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له الا ذلك”[14] فقوله” فليصلها إذا ذكرها” صريح في المسارعة إلى القضاء، ومع التوبة في حق العامد على الصحيح.
[1] رواه البخاري (945)
[2] رواه أحمد (11465)
[3] المصدر السابق (3555)
[4] صحيح ابن حبان (7219)
[5] رواه مسلم (125)
[6] المصدر السابق (684)
[7] مجموع الفتاوى 22 / 108
[8] رواه مسلم (710)
[9] المصدر السابق (711)
[10] المصدر السابق (712)
[11] مجموع الفتاوى 22/ 106
[12] رقم الفتوى (18590)
[13] الثمر الداني. ص:183
[14] رواه أبو داود (442) وصححه الألباني
هل انتفعت بهذا المحتوى؟
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.