الأبوة في المنظور القرآني..الأبوة في القرآن ..الأب في القرآن
ينظر القرآن الكريم إلى الأبوة بوصفها واحدة من أقوى الروابط الإنسانية لما يترتب عليها من التزامات وحقوق مادية ومعنوية، ورغم التبعات التي تفرضها على المرء إلا أنها تعد هبة ومنحة من الله لعباده حيث كان من دعاء الصالحين {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} ، وفي السطور التالية نحاول بيان ماهية الأبوة في القرآن الكريم وخصائصها ونسعى إلى تحليل نموذج الأب الصالح في القرآن.
مفهوم الأبوة واستعمالاته
أصل الأب في اللغة: التهيؤ والقصد، يقال: أب الرجل، إذا تهيأ للذهاب وقصد، والأب: النزاع إلى الوطن. وورد في لسان العرب أن الأبوة من الأصل الثلاثي (أبى) وذلك من الإباء بالكسر أي الامتناع. وأبى الشيء يأباه إباء وإباءة: كرهه.
وبهذا يتبين أن الأبوة قد تكون بمعنى التهيؤ والقصد للاحتضان الاجتماعي والتربوي، وقد تكون بمعنى الامتناع أي المنعة والحماية التي يوفرها الأب لأبنائه ويجوز أن تكون بمعنى الإباء والكراهية المتعلقين بتقاسم الأدوار بين الأبوين في رعاية الأبناء {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها} (الأحقاف: 15) [1].
وفي الاصطلاح الأب هو (إنسان تولد من نطفته إنسان آخر) كما يقول الكفوي، ويعرفه المناوي أنه: «كل من كان سببًا لإيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره».
ويميز اللغويون بين الأب والوالد، فالأب أشمل من الوالد إذ يطلق على أبي الطفل وجده وعمه، أما الوالد فهو الأب الأدنى للطفل، والوالدين هما الأب والأم، والأبوة رابطة متعدية لا تقف عند الوالدين، وهي رابطة معنوية لا تتصل بالنسل والذرية وحسب وإنما تشمل الرابطة الإيمانية والعقدية ولهذا أطلق على إبراهيم عليه السلام (أبو الأنبياء).
وقد استخدم القرآن مادة الأبوة حوالي (117) مرة في صيغ المفرد والمثنى والجمع، ومن أمثلتها قوله {قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه} (يوسف: 78)، وقوله {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات: 102) ، ويطلق الأب في الاستعمال القرآني على ثلاث أوجه:
وعادة ما ترد كلمة الأب في السياق القرآني وهي محاطة بالاحترام والخضوع المعنوي من الأبناء، ومن ذلك ما ورد على لسان ابنتي شعيب عليه السلام حين سألهما موسى عليه السلام عن خطبهما قالتا { لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} (القصص:23)، وهذا الاحترام أبداه أيضا إخوة يوسف حين طلبوا الشفاعة من عزيز مصر متعللين (إن له أبا شيخا كبيرا) مما يوحي أن الاحترام واجب على جميع الأبناء حتى العاقين منهم.
ويذهب الدكتور فاضل السامرائي أن القرآن يستخدم لفظين للإشارة إلى الأب والأم وهما:
- الأبوين، وفيه تغليب للأب في المواضع التي يتقدم فيها الأب على الأم من مثل قوله تعالى (ورفع أبويه على العرش) إذ لا يتوقع أن تتقدم الأم على الأب في ذلك.
- الوالدين، وفيه تقديم للأم في المواضع التي تتقدم فيها وتقدير لجهدها في الإنجاب والتربية كما في قوله (وبالوالدين إحسانا).
ويضيف السامرائي أن القرآن يرتب العلائق بحسب قوتها فيجعل الأب مقدما على الأم في علاقته بالأبناء لأنه أقدر على النصر والمعاونة منها، فالأم في الغالب ضعيفة تحتاج إلى الإعانة ولذلك ففي موقف الفرار يوم القيامة {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه} (عبس: 34) يكون الإنسان أكثر التصاقا بالأب لحاجته إليه، ولذا قدم الفرار من الأم على الفرار من الأب[3].
خصائص الأبوة
تناول القرآن الأبوة في عدد من المواضع وقدم نماذج مختلفة لها، ومن خلالها يمكن أن نستخلص عددا من الخصائص التي يتسم بها مفهوم الأبوة في القرآن، ومنها:
- ذكر القرآن أنواعا مختلفة من الأبوة فقدم نماذج للأبوة الصالحة كما هو الحال مع نوح وإبراهيم ويعقوب ولقمان كما قدم نموذج وحيد للأبوة الفاسدة وهو آزر والد نبي الله إبراهيم، وفي هذا إشارة إلى أن الأصل في الأبوة الصلاح وليس الفساد رغم وجود نماذج غير صالحة.
- انخرطت معظم النماذج الأبوية القرآنية في عملية التربية، ولعبت الدور الأكبر فيها يبدو هذا في علاقة نوح بابنه وحرصه الزائد على تجنيبه مصير القوم الفاسقين، وعلاقة يعقوب ببنيه حيث حرص على توجيههم ونصحهم بشكل فردي وجمعي وصبر على مكرهم واستغفر لهم {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} (يوسف: 97)، كما يظهر في علاقة لقمان بابنه حين راح يلقنه المبادئ العقدية والأخلاقية، ويفهم من هذا أن الأب -وفقا للمنظور القرآني- يضطلع بالعبء الأكبر في عملية التربية، وأما ما يشاع في مجتمعاتنا من أن الأم هي من تتولى عملية التربية وأن دور الأب ينحصر في تأمين الاحتياجات المادية للأسرة فليس له أي سند من القرآن.
- المتأمل في النماذج الأبوية القرآنية يجد تلازما بين الأبوة وبين المعاناة والمشقة مما يوحي بثقل المسئولية الملقاة على الأب في محاولة إصلاح ابنائه وإرشادهم، وهو ما نجده في حالة نوح عليه السلام الذي لم يكف عن محاولة إرشاد ابنه الضال حتى اللحظات الأخيرة، وفي حالة إبراهيم الذي تحمل بثبات الأمر الإلهي بذبح الابن وكان قدوة للابن في امتثال الأمر الإلهي، وفي حالة يعقوب عليه السلام الذي صبر وتحمل أذى الأبناء.
- ينبغي مقابلة ما يبذله الآباء من مشقة بالتقدير والإجلال من الأبناء ولأجل هذا جعل الله برهما فريضة على الأبناء، ويفترض السمرقندي في (تنبيه الغافلين) أنه “لو لم يذكر الله تعالى في كتابه حرمة الوالدين ولم يوص بهما، لكان يُعرف بالعقل أن حرمتهما واجبة، وكان الواجب على العاقل أن يعرف حرمتهما ويقضي حقهما، فكيف وقد ذكر الله تعالى وأمر في جميع كتبه: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وأوحى إلى أنبيائه ورسله وأوصاهم بحرمة الوالدين ومعرفة حقهما”[4].
- استخدمت النماذج الأبوية القرآنية أساليب الحوار والإقناع مع الأبناء، إذ لا نعثر في القرآن على شواهد تؤيد اللجوء إلى العقاب البدني أو التهديد اللفظي أو الإكراه مع الأبناء حتى العاقين منهم، فهذا نبي الله يعقوب حين جاء أخوة يوسف بدم كذب على قميصه لم يزد على قوله {بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} (يوسف: 83)، وحين ورد على إبراهيم عليه السلام الأمر الإلهي بالذبح استشار ولده قبل التنفيذ {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات: 102)، ويفهم من هذا أن الأبوة كما قدمها القرآن ليست سلطة مطلقة يمارسها الأب وإنما هي قدوة وتدريب للأبناء على المشاركة في اتخاذ القرارات، إذ ليس في القرآن ما يسمى في علم الاجتماع “البطريركية” أو السلطة الأبوية المطلقة، حيث نهى القرآن عن تقديس الآباء واتباع آثارهم دون تمحيص {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} (الزخرف: 23).
الأب في القرآن: يعقوب نموذجا
قدم القرآن شخصية الأب القدوة الذي يمكن اقتفاء آثاره في علاقته بأبنائه، ومنها شخصية يعقوب عليه السلام الذي يعد نموذجا ومثالا للأب في المنظور القرآني حيث امتلك عددا من الصفات العملية والتربوية أهلته ليكون أبا صالحا، ومنها:
- انحداره من بيت صالح، قال الله تعالى مخبرا عن جده إبراهيم الخليل وأبيه إسحاق عليهما السلام {وإنه عندنا لمن المصطفين الأخيار}، ومعلوم أن الابن إذا انحدر من أصل صالح وكان أبويه كريمين تأثر بهذه البيئة وانعكس ذلك على سلوكياته وقراراته حين يصير أبا.
- العمل الشريف والسعي لإعالة الأبناء، عرف عن يعقوب اشتغاله برعي الغنم في البادية وذكر ذلك يوسف بقوله (وجاء بكم من البدو)، وحينما قدم مصر لم يتخل عن مسئولياته تجاه أبنائه ونصحهم بالتوجه إلى قصر العزيز لنيل حصتهم من الميرة في زمن القحط وتوقف الأعمال.
- التعهد بنصيحة الأبناء وتوجيههم، اجتهد يعقوب في نصح أبنائه فرادى ومجتمعين واصطبر عليها، ولم يمل منها رغم إعراض بنيه ورغم ما ناله من أذاهم.
- الفراسة والفطنة، جمعت شخصية يعقوب عليه السلام بين الطيبة والشفقة على الأبناء وبين الفطنة والفراسة فعندما تقدم إليه أبناؤه بدعوى أن يوسف أكله الذئب، وجاءوا على قيمصه بدم كذب لم تنطلي عليه هذه الخدعة ولم يستسغها وإنما قال {بل سولت لكم أنفسكم أمرا والله المستعان على ما تصفون} (يوسف: 18).
- التحاور مع الأبناء، اعتمد يعقوب عليه السلام أسلوب الحوار باعتباره وسيلة التواصل بينه وبين بنيه، ومن خلال الحوار قدم نصحا فرديا ليوسف ألا يقصص رؤياه على أخوته، وقدم نصحا جمعيا للأخوة، والمتأمل في إيثار يعقوب لغة الحوار ليتعجب من فعاليته رغم أن نتائجه بعيدة المدى، إذ استمر أخوة يوسف في غيهم سنوات، ويمكن للآباء امتثال خطى يعقوب، إذ فيها احترام وتقدير للصغار، وتدريب على عدم إصدار أحكام مسبقة دون الاستماع لكافة الآراء.
- إظهار محبة الأبناء والخوف عليهم، زرع الله في قلب يعقوب حب بنيه، شأنه شأن أي أب، ولم يجد غضاضة في إظهارها، وعبر عنها حين صدر خطابه لأبنائه جميعا بقوله (يا بني) وكان بوسعه أن يوجهه باسمه، وبقوله لبنيه {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} (يوسف: 67)، وبحزنه على فراق يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن.
- الصفح عن الأبناء، صبر يعقوب على أذى أبنائه حين حاكوا مؤامرة لأبعاد أخيهم، وحين تطاولوا عليه وقالوا {إن أبانا لفي ضلال مبين} (يوسف: 8)، ولم يقنط من نصحهم وإرشادهم حتى ثابوا إلى رشدهم وأقروا بذنبهم بين يديه قائلين {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خطئين} (يوسف: 97) [5].
وبالجملة، أفاض القرآن الكريم في الحديث عن مقام الأبوة، وقدم نماذج للأب الصالح، ووضع تصورا مفصلا لكيفية التعامل الأمثل مع الأبناء على اختلاف طبائعهم وسلوكياتهم.
[1] غدير سالم الشمايلة، “خطاب الأبوة في القرآن الكريم: دراسة بيانية تربوية.”القاهرة: مجلة كلية دار العلوم ع 75 (2014)، ص 109.
[2] أنظر موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم : https://modoee.com/show-book-scroll/228#footnote-06
[3] فاضل صالح السمرائي، لمسات بيانية في نصوص من القرآن الكريم، عمان: دار عمار، 2003، ص 194.
[4] نصر بن محمد بن أحمد السمرقندي، تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين، تحقيق: يوسف علي بديوي، ط 3، (سوريا: دمشق، دار ابن كثير، 2000)، ص 124.
[5] سلمى داود ابراهيم بن داود، يعقوب عليه الصلاة والسلام مثال الأب الصالح من منظور قرآني دراسة موضوعية، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية، ع 95 (2023)، ص 43-45.
هل انتفعت بهذا المحتوى؟
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.