مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية
صدر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” كتاب في جزأين، الجزء الأول بعنوان “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية: مقاربات فلسفية وإبستيمولوجية”، وشمل 508 صفحات، وهو من تأليف مجموعة مؤلفين، وتحرير وتقديم مراد دياني. أما الجزء الثاني من الكتاب فجاء بعنوان”مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية: مقاربات اجتماعية”. وضم 448 صفحة، وهو من تأليف مجموعة مؤلفين هم: أمل عادل عبد ربه، عبد الله حمودي، محمد آوالطاهر، عبد الحليم مهورباشة، علي جعفري، محمد عبد النور، عبد الرحمن المالكي محسن بوعزيزي، محمد نعيمي، عبد القادر بوطالب، منير السعيداتي. أما التحرير والتقديم فتكفل به مراد دياني ومحسن بوعزيزي.
ساهم في تأليف الجزء الأول من كتاب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية: الجزء الأول: مقاربات فلسفية وإبستيمولوجية”. مجموعة من المؤلفين هم: الحبيب الحباشي، عبد الرزاق بلعقروز، محسن التومي، حسن احجيج، عبد القادر ملوك، محمد غاليم، رجا بهلول، عزمي بشارة، محمد الوحيدي، الزواوي بغوره، فتحي إنقزو، منير الطيباوي
هذا الكتاب هو باكورة سلسلة كتب مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي يصدرها المركز العربي في خمسة أجزاء. وتأتي هذه السلسلة للإسهام في معالجة الارتباك واسع النطاق الذي يسم الحقل الجامعي والبحثي العربي في مسألة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بسبب نقص الأدبيات العربية المؤلفة والمترجمة في هذا الموضوع وقِدَمها، وكذلك بسبب المقاربات الشكلية والمدرسية التعريفية والتعليمية التقليدية الغالبة عليها.
ومن ثمّ، كثيرًا ما نجد الطالب العربي يبدأ ورقته البحثية بمقدمة عن المنهج يقول فيها إنّه استخدم المنهج التحليلي أو التاريخي أو حتى الوصفي أو الكمي، وغالبًا يستخدم المنهج الوصفي – التحليلي تعبيرًا جاهزًا، وليس مصطلحات دارجة، أو وصفًا لعمليات ذهنية بسيطة لا بد منها في أيّ تفكير عقلاني.
علمية العلم بمنهجه العلمي
إنّ ما يجعل العلم علمًا هو اتباع منهج بحث علمي في تناول موضوعاته، بحيث تكون مقولاته قابلة للإثبات والدحض بمنهج علمي. وإذا كان هذا صحيحًا؛ فلا يعني أنّ المنهج معيار للتميز بين ما هو علمي وغير علمي. ويختلف المتخصّصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية في مقارباتهم؛ فبعضهم يسعى لاكتشاف وقائع أو نظريات أو “قوانين اجتماعية” لم تكن معروفة من قبل، أو ينطلق من نظريات أو قوانين اجتماعية أنجزها باحثون آخرون فيسعى لتفسير الظواهر بموجبها، وبعضهم لا يتوقع أكثر من إنتاج نماذج نظرية تسلّط الضوء على الإنسان والمجتمع من زوايا مختلفة.
يدور نقاش آخر بشأن مدى ارتباط هذه النظريات بالواقع الاجتماعي والثقافي الذي تبحثه؛ إذ كثيرًا ما تتحكم دوافع “غير علمية” مختلفة في اختيار الظاهرة والإشكالية التي تُبحث، وتتحكم دوافع مشابهة في الهدف الذي من أجله تُسخّر العلوم. فهل ما يتحكم في الدافع والهدف يتحكم في المنهج نفسه أيضًا؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فهل ينقص ذلك من علميته؟
لا تقتصر قضايا العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي تتطلب التفكير، على هذه القضايا والإشكالات؛ إذ تتوافر مجموعة أخرى من القضايا المتعلقة بالمعرفة والسلطة من جهة أولى، والمعرفة والقيم من جهة ثانية، وعبور الاختصاصات من جهة ثالثة.
سؤال المنهج في الفلسفة والإبستيمولوجيا
يخص الجزء الأول من كتب سلسلة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية النظر في المقاربات الفلسفية والإبستيمولوجية في موضوع مناهج البحث. ويستهلّ هذه المقاربات المفكر العربي عزمي بشارة بفصل عنوانه “في أولوية الفهم على المنهج”، يؤكد فيه أنّ النقاش النظري بشأن المناهج، بعيدًا عن الجهد المبذول لفهم موضوع ما باستخدام نظريات في سياقات محدَّدة، يظلّ نقاشًا محدود الفائدة، على اعتبار أنّ منهج البحث ليس شيئًا جاهزًا إلا فيما ننسّقه وننمّطه من أساليب في البحث لغايات مدرسية، بل إنّ المهم هو ما نصنعه في عملية البحث نفسها، وهذه العملية تفرض منهجًا من النظريات القائمة أو تتطلب عدة مناهج، وربما تقود إلى التوصل إلى نظرية جديدة. وبعد أن يعرض الباحث بالدرس والنقد المقاربات الرائجة في مسألة المنهج، ويقدّم تأملاته الفلسفية والبحثية فيها، يُبرز أنّ ما يستحق تسميته مناهجَ في العلوم الاجتماعية والإنسانية هي مقاربة تحليلية مترتبة على نظريات، وأنّ ما يتطلبه تطوير المناهج هو الاهتمام بالنظرية في السياق الاجتماعي الاقتصادي والثقافي الحضاري للمجتمعات التي نبحث فيها.
غالبية النظريات في العلوم الاجتماعية والإنسانية تطورت في مراحل زمنية وأماكن وسياقات حضارية مختلفة، ولدراسة مجتمعات أخرى غير التي نطمح إلى تناولها بالبحث. ومن ثمّ، لا شك في الفائدة من استخدامها، إذا أُخضعت للنقد العيني الموضوعي خلال الاستخدام. ويخلص إلى أنّ التحدي القائم أمام العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية هو الإنتاج النظري من خلال البحث في مجالات محددة، وإنجاز مقاربات تحليلية مفيدة ومناهج في البحث في فهم المجتمعات والعلاقات بين البشر وعالمهم الثقافي والروحي في السياق المحدد الذي نحن بصدده.
وينطلق زواوي بغوره، في الفصل الثاني “الفلسفة الاجتماعية: بحث في مفهومها ونظريتها وعلاقاتها”، من موضعة مفهوم الفلسفة الاجتماعية ضمن الاجتهادات النظرية التي قدّمتها مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية ضمن سياق الفلسفة الألمانية المعاصرة، وتحوله إلى عنصر أساسي ضمن عناصر أخرى لا تقل أهمية من حيث الإسهام النظري والمنهجي في بعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة. ومن ثمّ، فهو يتناول بالدرس والتحليل موضوع الفلسفة الاجتماعية، وارتباطها بقضايا الحاضر، والآني، في صورتها التجريبية والملموسة، وهو ما يظهر في اهتمامها بالحركات الاجتماعية، والأقليات والمهمشين والمبعدين والمقصَين والمهاجرين، وبنوعية حياتهم، ومعاناتهم، وصراعاتهم، وتعمل من أجل مثال اجتماعي وسياسي، يمكن التعبير عنه بمصطلح “التنوير” وقيمه الأساسية. ويخلص الباحث إلى أنّ الفلسفة الاجتماعية ليست نوعًا من إبستيمولوجيا العلوم الاجتماعية؛ إذ لا تكتفي بالدراسة الوصفية للمبادئ العلمية، أو بفلسفة للمجتمع، فحسب، بما أنها لا تقتصر على دراسة الأنطولوجيا الاجتماعية، وبما هي مبحث فلسفي يتميز بعملية الربط الذي يقيمه بين الوصف والتفسير، والمعيار الواقع، والنظرية والممارسة، من منظور نقدي يطمح إلى تحقيق قيم التنوير.
يسلط رجا بهلول الضوء في الفصل الثالث “أحداث الطبيعة وأفعال الإنسان: كيف ندرك العلاقة بين الطبيعي والاجتماعي؟”، على مفهوم الفعل، بوصفه حجر زاوية العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي يقع، بحسب الباحث، على تقاطع ثلاثة أنواع من المباحث الفلسفية: الأنطولوجيا، والإبستيمولوجيا، وفلسفة العلوم الاجتماعية. ومن ثمّ، فهو يركّز اهتمامه على الجانب المتعلق بفلسفة العلوم الاجتماعية، ليخلص إلى أنه ليس هناك داعٍ إلى الظن أنّ علوم الإنسان تتطلب مناهج أو أساليب تفسير تختلف جذريًّا عن تلك المتبعة في العلوم، وليس هناك تناقض أو تنافس بين تفهّم الأفعال من وجهة نظر تأويلية، أو من خلال البحث عن الأسباب بالمعنى التجريبي المألوف.
وفي الفصل الرابع “التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي وشروط صدقيته”، ينطلق حسن احجيج من عرض وفرة البحوث العلمية الغربية التي تناقش موضوع التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية، ليُلاحظ في المقابل غيابًا نسبيًّا لمناقشة هذا الإشكال الإبستيمولوجي في الفكر الفلسفي والسوسيولوجي العربي، ويحاجّ بأنّ التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية يختلف عن التفسير الاستنباطي – الناموسي، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره أدنى منه من حيث الوجاهة الكشفية. وفي سبيل ذلك، نجده يدافع عن وجاهة مقاربة لاهيومية لِعِلِّية التفسير القصدي، وعن موقفٍ يجمع بين الحاجة إلى التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي، مع الإبقاء على وجاهة الهدف التقليدي لفهم هذا السلوك في سياق ثقافي. ويحاول الباحث البرهنة على أنّ العلم الاجتماعي يمكنه أن يتخذ من مبررات الفاعل عللًا لأفعاله، لكن من خلال الحجاج على أنّ نظرية الاطراد الهيومية لا يمكن اعتمادها أرضية وجيهة للتفسير القصدي.
وينظر فتحي إنقزّو في الفصل الخامس “الفهم والتفسير: مسائل المنهج وأصولها التأويلية في فلسفة فلهلم ديلتاي”، في ثنائية الفهم والتفسير، ويحلّلها من جهة ترددها بين سجّلين: السجل السيكولوجي الذي يتصل بالبنية الباطنية للتجربة النفسية، بوصفها مجموعًا مستقلًا بنفسه، متضمنًا التجارب والعناصر الأساسية للوعي، وما يُقام عليها من بنى عليا للوجود الاجتماعي والتاريخي، والسجل التأويلي الذي يقوم على قراءة العلامات والآثار والمعالم التي تتجلى من خلال العلاقة بغيرها، وتُشكّل في هيئات ونصوص ومدونات مشبعة بالدلالة والمعنى، ومعبرة عن تجارب الحياة وأشكالها الفردية والجماعية، وانخراطها في سياق تاريخي متصل. وينافح الباحث عن فرضية مفادها أنّ التمييز الشائع بين الفهم والتفسير ليس فصلًا قاطعًا ونهائيًّا بين عالمين: عالم الطبيعة، وعالم الإنسان والمجتمع والتاريخ، وبين منهجين: منهج علوم الروح، أو الإنسان، ومنهج علوم الطبيعة، وإنما هو تمييز منهجي إجرائي، يتيح توحيد المجال الموضوعي لعلوم الروح.
ويستأنف عبد القادر ملوك البحث في الموضوع ذاته، لكن من منظورٍ مغاير في الفصل السادس “إشكالية الصلة بين الوقائع والقيم وانعكاساتها على موضوعية العلوم الطبيعية والإنسانية: ماكس فيبر وهيلاري بتنام نموذجًا”، منطلقًا من الاستقطاب القائم بين من يدعو إلى الفصل بين الوقائع والقيم، ويرى فيهما مجالين متمايزين ومنفصلين لا إمكان لتقاطعهما، ومن يرى أنّ التفريق بين الواقعة والقيمة هو مجرد عملية متكلّفة ناتجة من الصنعة الفلسفية أو من الإجرائية العلمية. وهذا التَكلُّف راجع بالأساس إلى تعذّر هذا التفريق إجرائيًّا، كما يتعذّر التفريق أو الفصل في الشيء الواحد بين ذاته وصفاته.
وهو الاستقطاب الذي نجم عنه استقطاب ثانٍ اتخذ من حضور القيم أو غيابها حجر الزاوية في الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ويرى الباحث أنّ الممارسة العلمية مهما طهَّرت وسائلها من كل أثرٍ للمعاني والقيم الذاتية، واقتصرت على الملاحظة الظاهرة والتجربة الحسية، فإنها لن تستطيع أن تُحَصّل تمام الموضوعية؛ لأنّ الحقائق التي تفرزها لا توجد في الخارج مستقلة عن الذوات التي تنتجها. فهي، وإن سَلِمت من القيم المسماة “أخلاقية”، فإنها لا تسلم من القيم المسماة “إبستيمية”. وآية ذلك أنّ المنهج العقلي العلمي لا يدرس الوقائع إلا بإدخالها في حيّز محكوم ببعدَي الزمان والمكان، وإخضاعها لوسائل التقدير والتقسيم والتركيب والتصنيف والترتيب، واصطناع الوسائط تلو الأخرى لمقاربتها بدقة، وهذه أمور بشرية تختلف باختلاف الباحثين واختلاف الأزمنة والأمكنة. ويخلص الباحث إلى استنتاجٍ يقضي بأنّ العلم لا يقع بعيدًا عن متناول القيم، وأنّ الممارسة البحثية العلمية تستند إلى معايير للعقلانية والموضوعية محكومة برؤية بشرية تقديرية.
ويستأنف منير الطيباوي في الفصل السابع “الاستتباعات الإبستيمولوجية لنقد مثنوية الواقعة/ القيمة على منهجية العلوم الاجتماعية”، سؤال حضور المعايير والقيم في تفسير الفعل الاجتماعي الذي يشكّل الموضوع المركزي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو السؤال الذي لا ينفك عن أسئلة منهجية أخرى متعلقة بالطبيعانية والمعقولية وغيرهما في التقليد الفلسفي القارّي. ويعرض الباحث لنقد هيلاري بتنام لمثنوية الواقعة/ القيمة كما أرساها ديفيد هيوم والخبرانيون المنطقيون، مبرزًا أنّ هذا النقد يفرض تصورًا جديدًا للعلاقة بين الطبيعانية والمعيارية ضمن موقف إبستيمولوجي بلوره بتنام في السنوات الأخيرة من مسيرته الفلسفية، وهو موقف “الطبيعانية الليبرالية” الذي يقرّ بالأهمية القصوى للقيم في مجال العلوم الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بقيم إبستيمية أو إيتيقية، ويفرض تصورًا جديدًا لعلاقة علوم الطبيعة بالعلوم الاجتماعية، من شأنه أن يُسهم، وفقًا للباحث، في تجاوز عجز هذه العلوم عن بلورة المناهج والمفاهيم وأشكال النمذجة الخاصة بها من أجل التفكير في المعيش والتحولات الاجتماعية الفريدة للوطن العربي، بما يجعل هذه العلوم غير قادرة على الإمساك بطرفي المعادلة: “الحياد الأكسيولوجي”، و”مناسبة القيمة”.
ويطرح عبد الرزاق بلعقروز في الفصل الثامن “منهج المنهج في مكاشفة القول الفلسفي علميًّا: من مضمون الفلسفة إلى أدوات التفلسف”، سؤال المنهج في بحث القول الفلسفي من السياق المعاصر الذي بات يسعى لاستكشاف الأبواب التي منها يدخُل إلى صناعة قولٍ فلسفي جديد، ساعيًا إلى الظفر بالمنهجية التي ندخل بها عالم الإبداع الفلسفي عربيًّا. ويتقصّد بلعقروز “سرّ الصناعة الفلسفية” بمنهجية علمية “خارجية”؛ أي بنقل الهاجس من التفكير من داخل الفلسفة إلى النظر من خارجها. ويخلص إلى عددٍ من النتائج، من أهمها ترابط حركة التفلسف والاستمداد من اللغة، وأنّ هذه المنهجية ليست في رسم معالم المنهج نحو التفلسف منهجيةً بحثيةً، وإنّما هي منهجية في كيفية التفلسف، وأخيرًا أنّ هذه المنهجية ليست مخصوصةً بالقول الفلسفي وحده، وإنما تصلُح أدواتها لتحرير العلوم الاجتماعية في العالم العربي من ظاهرة “النقل المقصوص”، لكي تُكسبها أدوات “الاجتهاد المرصوص”.
الموضوعات والبرادايم في العلوم الاجتماعية
في الفصل التاسع “الأنموذج المعرفي إطارًا لاندماج علوم الطبيعة والمجتمع: بحث في وحدة المنهج وترابط الموضوعات”، يتناول محمد غاليم أسس الاندماج الذي أفضى في العقود الأخيرة إلى تطوير أنموذج معرفي، يشكّل إطارًا علميًّا متسقًا لتعاون مختلف العلوم الطبيعية والنفسية والاجتماعية، واندماج نتائجها في فهم العلاقات الرابطة بين الظواهر التي تبني هندسة الجنس البشري الوظيفية القائمة على مختلف قدراته الطبيعية والمعرفية والإدراكية التي تدرسها العلوم المذكورة ومثيلاتها. ويحاجّ الباحث بأنّ هذا الأنموذج المعرفي، وليدَ مكتسبات العلوم المعرفية المعاصرة، يمكن أن يشكّل إطارًا لاندماج نتائج العلوم المادية والذهنية، على أساس وحدة منهجية عامة لهذه العلوم، وترابط موضوعاتها السببي و/ أو العضوي، ممثّلًا لذلك ببعض مظاهر اندماج اللسانيات في هذا الأنموذج المعرفي، من خلال الآفاق الواعدة التي تفتحها النظرية الدلالية اليوم، أمام فهم أعمق لطبيعة التصورات التي تبني اللغة والمعرفة.
ينطلق محسن التّومي في الفصل العاشر “بناء المعنى في المقاربات الكيفية: مقدمة في نقد البردايم الوضعي”، من تجربته في تدريس نظريات التصميم وتاريخه، وما انطوت عليه من عزوفٍ لبعض الطلبة عن الانخراط الفعلي في الدروس والإقبال عليها بالحماس المأمول، رابطًا ذلك بالخلل الذي يشكو منه نظام التوجيه الجامعي، والتباين بين الاختصاصات المقترحة والحاجات الفعلية لسوق العمل من خريجي تلك الاختصاصات. ولمناقشة هذه الإشكالات، خصّ الباحث بالدرس اتجاهات طلبة الفنون والحرف نحو فنّ النحت وتمثّلاتهم له، وما قد يحول دونه من معطّلات ثقافية ونفسية، ليخلص إلى أنّ المنعطف الكيفي الذي تشهده العلوم الإنسانية اليوم قد بات يمثّل أفقًا حقيقيًّا أمام تطورها، وتحدّيًا جدّيًّا لها في الوقت ذاته. وفي إطار هذا التأرجح بين الحدود والوعود، يؤكد التومي في الختام ضرورة بذل جهدٍ تخاصصي بين المناهج لم ينجز بعد.
وفي الفصل الحادي عشر “العلوم الإنسانية: إشكالية مناهج ودراسات استراتيجية لتحقيق مقاصد إنسانية”، ينطلق الحبيب الحباشي من الانفجار المعرفي الذي شهدته العلوم الاجتماعية والإنسانية في دراسة السلوك البشري، والذي لم يخلُ من مفارقة، ولم يتوقف عن زيادة مسألة مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية استشكالًا. وتتأسس هذه المفارقة على تقدم البحوث العلمية في شتى الاختصاصات الاجتماعية والإنسانية، واستشراء أمراض الإنسان النفسية، وتعاظم أزماته الاجتماعية، والاقتصادية، والحضارية، والثقافية، وتزايد هذه الأمراض النفسية وأزماتها على الثقافة العربية استغلاقًا، بخلاف غيرها من الثقافات؛ وهو ما ولّد عند بعضهم التباسًا في التصور أقعدنا عن استئناف الإبداع الثقافي والحضاري. ومن خلال درس هذه المفارقة وتحليلها، يخلص الباحث إلى أنّ إشكالية العلوم الاجتماعية والإنسانية لم تعد إشكاليةً تأسيسية تدور على استخلاص منهج مخصوص، بل إشكالية توحيد اختصاصاتها المتشظية في حزم معرفية قائمة على التكثر المستمر، والتفاعل المستقر، والعابرة للحدود المعرفية، لكي تنظر إلى الإنسان باعتباره كائن حرية، ومسؤولية أخلاقية، لا تظهر حريته، ولا تتجلى قيمته الأخلاقية والسياسية، إلا في تجربة وجودية ذات أبعاد خمسة متتالية، ومتفاعلة، ومتحاورة، هي: العلمي، والإبستيمولوجي، والميتافيزيقي، والأنطولوجي، والديني الروحي.
أما في الفصل الأخير من الكتاب “مشكلة ’التقدم‘ في العلوم الاجتماعية وتحول البردايم”، فيخصّ محمد الوحيدي مسألة “التقدم” في العلوم الاجتماعية بالدرس والتحليل، والتي أثارت جدلًا له تاريخ طويل، وجذبت تفكير كبار فلاسفة الفكر الاجتماعي ومنظّريه. وفي محاولة للإجابة عن سؤال تحول البردايم في العلوم الاجتماعية، يؤكد الباحث ثلاثة أبعاد في البحث الاجتماعي: أولها، إنّ بحث الظواهر الاجتماعية المعقّدة ذو طبيعة إمبريقية، وثانيها، إنّ البحث الاجتماعي يتقاطع مع التفكير الفلسفي في القضايا التي يطرحها الفعل البشري، وثالثها، إضافةً إلى البعديَن الإبستيمي والتقني، ينبغي تشديد البعد العملي للبحث الاجتماعي، أي “الحكمة العملية” التي تحدث عنها أرسطو. وهو ما يعبر عنه الباحث بقوله إننا في حاجة إلى أن يستعيد العلم الاجتماعي وضعه بوصفه نشاطًا فكريًّا عمليًّا يروم إضاءة المشكلات، والأخطار، والإمكانيات التي تواجهنا بشرًا ومجتمعات، ويسهم في “التطبيق العملي” السياسي والاجتماعي.
الجزء الثاني من كتاب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية” جاء بعنوان: مقاربات اجتماعية. ويقع الكتاب في 448 صفحة، وهو من تأليف مجموعة مؤلفين هم: أمل عادل عبد ربه، عبد الله حمودي، محمد آوالطاهر، عبد الحليم مهورباشة، علي جعفري، محمد عبد النور، عبد الرحمن المالكي محسن بوعزيزي، محمد نعيمي، عبد القادر بوطالب، منير السعيداتي. أما التحرير والتقديم فتكفل به مراد دياني ومحسن بوعزيزي.
يعالج كتاب “مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية الجزء الثاني:مقاربات اجتماعية”، سؤال مناهج البحث في المقاربات الاجتماعية، وهو سؤالٌ يكتسي أهميةً كبرى، سواء من جهة إشكالات وتعالقات الذاتي والموضوعي، أو الفردي والجماعي، أو الجزئي والكلّي، أو الواقعي والافتراضي، أو الاستدلال الاستقرائي والاستنباطي، أو العَرَضي والمنتظم … إلخ. وعلى الرغم من أنها إشكاليات أساسية ومؤسّسة للبحث العلمي الاجتماعي، فإنها لم تلق نصيبها من الدرس والتأصيل في المجال التداولي العربي.
هذا الكتاب المخصص للمقاربات الاجتماعية هو الجزء الثاني من سلسلة كتب مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية التي يصدرها المركز العربي، في محاولة التصدّي لهذه الإشكالية المركزية، والإسهام في سدّ ثغرةٍ أساسية في الحقل العلمي العربي. وقد خص الجزء الأول من كتب السلسلة النظر في المقاربات الفلسفية والإبستيمولوجية في موضوع مناهج البحث. وتأتي أبحاث هذا الكتاب لتضع بين أيدي الباحثين والطلاب وعموم المهتمّين نخبةً من المقاربات الاجتماعية المميّزة والأصيلة.
سؤال المنهج في المقاربات الاجتماعية
يستهلّ عبد الله حمّودي الفصل الأول “سؤال المنهج في راهنيتنا: اجتهادات في تصور علوم اجتماعية عربية”، وفيه يسائل “الأشياء” التي تبقى خارج التدوين، وكيف يكون المنهج في كتب المنهج وخارجها في آنٍ واحد، ويسائل أيضًا النقد الإبستيمولوجي العربي للمعارف الغربية التي اقتبس منها، والذي يرتبط مع علوم اجتماعية عربية مُقتبَسة من تلك المعارف، ليصل إلى سؤال أهمية وضع أسسٍ متجدّدة لإنتاج المعرفة حول مجتمعاتنا العربية، وهو ما يتصدّى له متسلّحًا بـ “منهج النقد المزدوج”، مركّزًا على ما يتجلّى خلال لحظة التجربة التي تحيل على “مسافة”، أو “هوّة”، أو “ثغرة” بين ما هو مقتبسٌ، والواقع المبحوث، في منزلة الـ “بين-بين” التي يعيش الباحث في فضائها. ويدعو حمّودي إلى أن يتشبّث الباحث بانتمائه إلى المجتمعات التي تربّى فيها ويدرسها في آنٍ واحد، وأن يتشبّث أيضًا بالكتابة باللغة العربية، مع التمكن من اللغة المركزية في العلوم الاجتماعية وفي راهنيتنا المعولمة، وذلك بهدف التنافس في فضاء عالمي مفتوح وجديد يتفادى التبعية، سواء في شكلها القديم أو في شكلها الجديد.
ويسعى محسن بوعزيزي في الفصل الثاني “المنهج والصدفة: مقاربة غير المتوقّع”، إلى فهم الظواهر الاجتماعية الراهنة وتفسيرها، فيما يسميه أشكالها “القُصووية”، ويخصّ منها بالدرس والتحليل سؤال المنهج الاجتماعي لدرس الصدفة ومقاربة غير المتوقّع. وهو يعدّ ذلك ممكنًا “شرط ركوب الموج وخوض غمار الصدفة في جَيَشانها، لتتكشّف الرؤية ونحن داخلها؛ أي قبل أن تكتمل ويهدأ فورانها”، عوضًا عن ترك الظواهر الطارئة تسير إلى أن يستقرّ مسارها، من دون تدخّل الدارس فيها، باسم الموضوعية والحياد وعدم التسرّع. وعلى اعتبار الصدفة سلوكًا اجتماعيًّا غير متوقّع، فإنها تحتاج، وفق بوعزيزي، إلى منهجٍ غير متوقع تنتجه اللحظة التي ظهرت فيها هذه الصدفة، وقد يكون المنهج التركيبي مفيدًا إلى هذا الحدّ أو ذاك في مقاربتها؛ لأنّه في الأصل بحثٌ في غير المنتظر، إضافة إلى المقاربات العابرة للتخصصات التي ينشئها الباحث بحسب الطوارئ في أثناء شقّه الطريق نحو دراسة الصدفة. ولا يخلو تصدّي بوعزيزي لهذه الإشكالية العويصة درسًا وتحليلًا من شاعرية، ليقترح الخروج عن الطرق المنهجية المعبّدة المعتادة، ونسيان طقوس المعرفة ومعتقداتها وحتمياتها، للتفكير حدسيًّا، وتنشيط المخيال السوسيولوجي، بما فيه من علاقة بين الإنسان ومحيطه.
ويقترح أيضًا بناء نسق العلامات لبلوغ مقاربة سيميولوجية تقرأ ما لا يُقرأ عادةً ضمن سياق نصّي؛ لأننا لا نبلغ الصدفة إذا اكتفينا بقراءة “الرسائل الأولى”، بل يُفترض بلوغ الرسائل الثانية التي تلبس الأولى؛ أي قراءة ما بين السطور وخلفها، وما بين الإشارات وما تخفيه من قيمٍ اجتماعية وأخلاقية وأيديولوجية؛ لتصبح الدلالة الإيحائية نمط التفكير الملائم لرصد الصدفة وفهم زوابعها، فيخلص إلى أنّ جدارة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبخاصة علم الاجتماع، قد تظهر أكثر في دراسة غير المتوقّع من الأفعال والظواهر من دراسة الأفعال المتوقعة والمألوفة.
ويتناول محمد نعيمي في الفصل الثالث “محدودية نظرية الاختيار العقلاني في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية: حالتا حركة ’20 فبراير‘ وحراك الريف في المغرب”، دور نظرية “الاختيار العقلاني” في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية لتفسير بعض الظواهر، متسائلًا عن النظرية وقيمتها ومحدوديتها في دراسة “الفعل الجمعي”، وإنْ كانت الحركات الاجتماعية تنطوي على عقلانية معينة، ومدى اختلاف منطق الفعل الجمعي عن منطق الفعل الفردي، وإنْ كان اختيار الفرد انخراطَه في الفعل الجمعي يتحدد وفق منافع أو بحسب قيمٍ. ويتناول نعيمي هذه الإشكالية عبر دراسةٍ ميدانية للوضعية الاحتجاجية في المغرب، وتحديدًا بالنسبة إلى حركتين اجتماعيتين في هذا البلد “حركة 20 فبراير” و”حراك الريف”، ويُقدِّم من خلالهما حجاجه بشأن محدودية العقلانية الأداتية في نموذجها “الأولسوني” الذي يُعاني في نظره قصورًا منهجيًا وإبستيمولوجيًا إزاء هذا النوع من الظواهر الاجتماعية التي يخضع فيها الفعل الجمعي الاحتجاجي لمنطق مغاير غير منطق العقلانية الأداتية المستندة إلى مُسلمة “مبدأ التكلفة والربح” التي تفتح المجال أمام تفسيرات بديلة تعتمد “حوافز رمزية” أو تنتمي إلى “عقلانية أكسيولوجية”.
ويخلص إلى ضرورة توسيع دائرة العقلانية لتشمل المجال الإدراكي، بما يُمكّن من تفادي السقوط في فخ اختيار جد مبسط بين كائنٍ اقتصادي مفرط في العقلانية، وكائن سوسيولوجي من دون عقلانية، والانفتاح على عقلانية أكسيولوجية تأخذ في الحسبان مجموعةً من القيم، وتخطّي خطاطة المنطق الأرسطي الثنائي القيم إلى منطق ديالكتيكي ثلاثي القيم، في إطار منهج يسعى نحو التكامل.
وينطلق عبد الرحمن المالكي في الفصل الرابع “الميدان والمنهج: حول نشأة التحقيقات السوسيولوجية في الغرب والمغرب”، من حقيقة أنّ تاريخ العلوم الاجتماعية ليس تاريخ “النظريات” و”البرَدايمات” فحسب، بل أيضًا تاريخ “التحقيقات العمالية” و”التحقيقات الاجتماعية” التي تطوّرت في القرن التاسع عشر، بتزامنٍ مع الاهتمام المونوغرافي للملاحظين الاجتماعيين؛ ما ساهم في تراكم كمٍّ هائل من الوقائع والمعطيات التي تزامن ظهورها مع النظريات التطورية الكبرى في القرن التاسع عشر، قبل أن تُتجاوَز هذه النزعة “العلموية” مع بدايات القرن العشرين، ويجري التوجّه تدريجيًا في اتجاه نزعة تستلهم الفلسفة البراغماتية والنزعات الإمبريقية و”الميدان”، بمناهج وتقنيات جرى استلهامها أولًا من الأنثروبولوجيا، ثمّ بحسب ما تقتضيه طبيعة الأبحاث ومجالاتها. وبعد عرضه ما الميدان في علم الاجتماع، وتطور تيار التحقيقات الاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، مع تركيزٍ خاص على “مدرسة شيكاغو” وتميّزها بالبحث الميداني الإمبريقي، ينتقل المالكي إلى درس تطور البحث السوسيولوجي الميداني في المغرب، ليخلص إلى أنّ الانغماس في الميدان الذي نسعى إلى فهمه أو تفسيره ينبغي أن يكون انغماسًا تامًا وكافيًا، وأنّ ذلك لا يتأتّى إلا إذا شعرنا بعد إنهاء التحقيق أنّ هذا الميدان قد غيّرَنا ومارس علينا التأثير نفسه الذي كنا نريد أن نمارسه عليه.
الفصل والوصل
يطرق محمد عبد النور في الفصل الخامس “الفصل والوصل بين الإنساني والطبيعي في علم الاجتماع ومكانة المقاربة البيوسيميائية”، موضوعًا ندَر ما نجده مطروقًا في الكتابات الأكاديمية العربية؛ وهو “التطورية”، ليستكشف من خلاله الآفاق المنهجية للوصل بين البُعدين الإنساني والطبيعي من خلال تمحيص الصلة العضوية المباشرة بين البيولوجي والاجتماعي بدايةً، وإعادة استكشاف قوانين المجتمع الإنساني غايةً، من أجل التعرّف إلى مدى خطورة التغير الذي سيطرأ على إبستيمولوجيا الاجتماع الإنساني.
ويعتبر أن من نتائج رأب الهوة بين الإنساني والطبيعي اندماج التاريخ البشري (الثقافي والحضاري) ضمن دائرة التاريخ الطبيعي الكبرى؛ ما سيوسّع النظر إلى المجتمع البشري من حيث امتداده في العمق التطوري للحياة، وهو ما سيعمل على التحرّر من أفق النهايات، ويعني بها أطاريح “نهاية التاريخ” وهي نتاج حتمي للتصورات المثالية عن العقل المتمحورة حول مركزية الإنسان وتفريده اعتباطيًا عن بقية الموجودات. ليخلص عبد النور إلى أنّ التنظير والتحليل السوسيولوجيَّين سيقومان مستقبلًا على منظورٍ شبكي تفاعلي، طرفاه الوراثة والبيئة، ويعني بالوراثة بُعديها “الجيني” البيولوجي و”الميمي” الثقافي، ويعني بالبيئة بُعديها الإيكولوجي المادي والاجتماعي الرمزي، في تأثيراتٍ تبادلية لامتناهية، بحيث لا تصبح الغاية الأساسية هي الانتهاء إلى نموذج نظري ثابت، بقدر ما يكون الهدف هو تحقيق فهمٍ وإدراكٍ سببي لكلّ دقائق الوجود الاجتماعي.
في السياق ذاته، يتناول عبد الحليم مهورباشة إشكالية الفصل والوصل في العلوم الاجتماعية من منظورٍ مغاير في الفصل السادس “العلوم الاجتماعية من برَدايم الفصل إلى برَدايم التركيب: نحو طرح إبستيمولوجي بديل”، منطلقًا من مسلّمة أنّ العلوم الاجتماعية باتت في المؤسسات الجامعية الحديثة مجموعةً من التخصصات العلمية المتناثرة بين الأقسام الدراسية والمختبرات العلمية؛ إذ نعثر على تخصصات معرفية عدة يندر التواصل المعرفي بين المشتغلين بها.
ولفهم الوضعية المعرفية التي آلت إليها العلوم الاجتماعية، يوظّف مهورباشة المنهج الأركيولوجي، من خلال الحفر في الجذور المعرفية والسياقات التاريخية التي تشكّلت في رحمها هذه العلوم، مسائلًا المبادئ التي مثّلت أعمدتها الإبستيمولوجة ومنطلقاتها المنهجية، من أجل درس العلاقة المتشابكة بين برَدايم الفصل والعلوم الاجتماعية، وكيفية انعكاس مبادئه على فروعها المختلفة، والحدود المعرفية التي ارتسمت بين فروعها، ويعمل على تفكيك هذه العلاقة المتشابكة بتوظيف برَدايم جديد في فلسفة العلوم المعاصرة لإعادة الوصل بين فروع العلوم الاجتماعية.
ويسعى، من وراء ذلك، للكشف عن البرَدايم الذي انتظمت خلفه الممارسات المنهجية والخطابات النظرية في العلوم الاجتماعية، التي تسهم في بلورة وعيٍ نقدي لدى الباحثين بالمرجعيات المعرفية التي تطورت في ظلّها هذه العلوم. ويوصي مهورباشة بإعادة النظر في المسارات التكوينية للباحثين في الجامعات العربية، من خلال صياغة مناهج دراسية تتقاطع فيها فروع العلوم الاجتماعية، والتفكير في تأسيس مختبرات بحثية محور اشتغالها المركزي بردَايم التركيب في فلسفة العلوم المعاصرة، وإنشاء فرق بحثية تنجز دراسات اجتماعية حول ظواهر معينة، يشترك في إعدادها باحثون من مختلف فروع العلوم الاجتماعية.
مقاربات في حقول المعرفة
تُعرّفنا أمل عادل عبد ربه في الفصل السابع “الإثنوغرافيا المؤسسية واستكشاف الواقع الاجتماعي: مقاربة تجريبية في دراسة دوائر المعرفة المصرية”، إلى منهجية “الإثنوغرافيا المؤسسية” التي تقدّم مقاربةً تربط التنمية بالمعرفة “من الأسفل إلى الأعلى”. وتعني بها معرفة الواقع الاجتماعي وما فيه من فاعلين اجتماعيين يمارسون حياتهم اليومية وتجاربهم داخل الأنظمة المؤسسية. وتعتمد الباحثة منهجية بحثية لعلم الاجتماع بديلة تختلف عمّا هو سائد عادةً في هذا الحقل؛ إذ تسعى هذه الإثنوغرافيا المؤسسية إلى دراسة سلوك الناس وتفسيره بغية وضع نموذج جديد للمعرفة لا يهدف إلى تشييء الواقع الاجتماعي واعتباره كيانًا منفصلًا عن سلوك الناس، فتنطلق من حياة الناس اليومية وممارساتهم وتجاربهم من أجل معاينة انسجام أفعالهم وذاتياتهم وتمفصلها مع المؤسسات بوساطة النصوص.
ويتعلق الأمر عند الباحثة بالكيفية التي تقوم بها المؤسسات بتنظيم حياة الناس اليومية، وبأنطولوجيا الاجتماعي بما هو تنسيق للأنشطة العادية عبر اللغة بما هي عامل تنظيم وترتيب للذاتيات، وعبر وساطة النصوص. ومن النتائج الرئيسة التي توصلت إليها في دراستها الميدانية التي شملت أربعةً من مواقع الدوائر المعرفية في مصر (معهد تكنولوجيا المعلومات، ومدينة الأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية، والقرية الذكية، ومكتبة الإسكندرية)، إبرازها تقييد وصول الجمهور إلى مواقع الدوائر المعرفية هذه وجعلها مناطق معزولة ومُسوّرة، وهذا ما تصفه بأنه “حجبٌ لهذه المشاريع والمناطق التنموية”، ومفاقمةٌ للإقصاء الاجتماعي لشرائح معينة من المجتمع المصري، وخاصة شريحة خريجي نظام التعليم العام.
يستكشف محمد أوالطاهر في الفصل الثامن “سوسيولوجيا التعليقات على الإنترنت: مدخل جديد لتفكيك جدلية الدين والتديّن في خطاب المتلقّي العربي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي”، مناهج البحث السوسيولوجي في العوالم الافتراضية الناشئة، ومدى ملاءمة المناهج التقليدية لدرسها، في مقابل الحاجة إلى اجتراح مقارباتٍ مستجدّة متّسقة مع خصوصياتها. ويعدّ أوالطاهر “خطاب المتلقّي” على الإنترنت، من خلال تعليقاته، بمنزلة المسكوت عنه في الدراسات السوسيولوجية المتعلقة بالموضوع، التي جرى تجاهلها في الأبحاث السوسيولوجية باعتبارها ثانويةً وهامشية، في حين أصبح الهامشي في الفكر المعاصر مصدرًا من مصادر الحقيقة السوسيولوجية، لكونه مفعولًا من مفعولاتها المرتبطة بالسلطة. وهو يخصّ بالدرس جدلية الدين والتديّن لدى المتلقّي العربي من خلال مدوّنة إعلامية منشورة في وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الرأي الإلكترونية.
وينطلق من القارئ في علاقته بالنص، مستعينًا أيضًا بـ “نظرية التلقّي” التي جرى تطبيقها في مجال النقد الأدبي، وفي علم الاجتماع أيضًا. وقد شملت الدراسة الميدانية 200 مادة إعلامية (140 مرئية، و60 مكتوبة)، بما يتجاوز 4000 تعليق على شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الرأي الإلكترونية. ويخلص إلى تأكيد أنّ المدوّنة الإعلامية لم تعد حاملةً للمعنى فحسب، بل صانعة له وكاشفة عنه في ذهن المتلقّي أيضًا، من خلال التعدّد الدلالي والسياقي الذي يتشكّل فيه خطابه؛ فقد أصبح النص مرآةً تعكس رؤية الواقع، ولم يعد يبني رؤية جديدة له. ويعدّ أوالطاهر أنّ مدخل سوسيولوجيا التعليقات على الإنترنت يفتح آفاقًا واسعةً في مقاربة إشكالات سوسيولوجية لا تزال إنتاجاتها هامشيةً في المجال التداولي العربي، خاصة لاعتبارات أمنية وسياسية وأيديولوجية، مثل الإشكالات المتعلقة بالجنس والسياسة والتطرّف والإرهاب، التي يكاد يكون مستحيلًا دراستها ميدانيًا (من خلال المقابلات، أو استطلاعات الرأي، أو المجموعات البؤرية … إلخ)، في حين نجد أنّ مجال التعليقات الذي تتيحه المواقع الإلكترونية ذات الصلة بهذه المواضيع قد عمل على القبض على ما لم يفتأ ينفلت من الدرس سوسيولوجيًا، سواء كان ذلك بسبب الرقابة الذاتية، أو الحظر الثقافي، أو الرفض الاجتماعي، أو المتابعة القانونية.
يعرض منير السعيداني في الفصل التاسع “التذويت والموضعة: الداخلي والخارجي في التحليل العلمي الاجتماعي”، الحركة الاجتماعية التي اندلعت في تونس خلال كانون الأول/ ديسمبر 2010 واستمرت إلى ما بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011، متحولةً في الأثناء إلى انتفاضةٍ فثورة، والتحديات التي يضعها تحليل تلك الحركة أمام كل باحث فيها من منظور العلوم الاجتماعية عامة، ومن منظور علم الاجتماع خاصة، ولا سيما قضية العدالة الاجتماعية. ويستعيد السعيداني النقاش القديم/ المتجدّد بين علماء الاجتماع والباحثين فيه حول زاوية النظر إلى الحدث/ الظاهرة/ الفعل، سواء بالتعويل على ما يراه فيه/ فيها فاعلوها، أو على اعتبار هؤلاء مجرد “فَعَلَة” لما يجسده منطق اشتغال الاجتماعي ويتجاوز أفهامهم في آنٍ معًا، بالتعويل على ما لا يداخله “الحس المشترك” من العقلنة التفسيرية الخارجية للظواهر الاجتماعية، مسلّطًا الضوء على أوجه التقابل و/ أو التكامل بين “الذاتي – الموضوعي”، و”الداخلي – الخارجي” في مقاربة الفعل الاجتماعي. ومن منظور هذه الترابطات، يعتبر السعيداني هذه السيرورة مرورًا من البُعد الذاتي إلى ما يسمّيه “المَوْضَعَة” (ويقصد بها “مَوْضَعَة” الذات في سياق بناء العالم الاجتماعي، وخلق إطارِ فعلٍ اجتماعي ذي وجود موضوعي له صبغة مؤسسية يُمكن دراستها سوسيولوجيًا)، لفهم الحركات الاحتجاجية التونسية التي تحولت في النهاية إلى ثورة.
ثنائيات: الميكرو/الماكرو، الداخلي/الخارجي، الكوني/المحلي
يقتفي علي جعفري في الفصل العاشر “الميكرو – ماكرو: في إلزامية تبيان آليات الانتقال”، أثر تفكيك الواقع الاجتماعي إلى مستويات تحليل كلية (Macro)، وجزئية (Micro)، ووسيطة (Meso)، مسلّطًا الضوء على المستويين الأولين بالدرس والتحليل، لا سيما بالنظر إلى آليات الانتقال بينهما. وبعد مناقشة فئات الفصل القائمة بين الميكرو والماكرو، بمقياس الحجم، يعرض جعفري للفصل بينهما بمقياس الإشكالية، والفرضية، ووحدة التحليل، خاصًّا بالنظر سجال محمد الشرقاوي مع جيمس كولمان بشأن أطروحة ماكس فيبر في الربط بين المتغيرات السوسيولوجية. ويقدّم جعفري تصنيفًا للنظريات يشمل عشرة أنواع “مثالية” تقوم بمسح النظريات السوسيولوجية الموجودة والآتية، مع ضمّه في كلّ نوعٍ مثالي النظريات التي توافقه، وعرضه النظريات التي يجب تبيان آليات مرورها بين مستويات الواقع من الميكرو إلى الماكرو؛ وهي النظريات التي تنشغل بتفسير الانتظامات الاجتماعية بصياغتها لفرضيات، عقلانية أو لاعقلانية، حول الفرد، أو حول ثنائية الفرد – السياق. ويختم بطرح مقترحات المستوى التحليلي الوسيط، ومفهوم الهابيتوس عند بيير بورديو، والشكل، بوصفها آليات ممكنة للانتقال بين مستويَي الميكرو والماكرو.
أما في الفصل الحادي عشر، وهو الفصل الأخير “علم الاجتماع بين الكوني والمحلي: إشكالية المفاهيم وسياقاتها في البحث السوسيولوجي بالمغرب”، يُلامس عبد القادر بوطالب مسألةً منهجية على قدرٍ عالٍ من الأهمية بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية العربية؛ هي المركزية الإثنية الأوروبية وإشكالية تراوح علم الاجتماع بين الكوني والمحلّي، من منطلق أنّ السوسيولوجيا قد تبلورت في سياقٍ تاريخي واجتماعي محدّد، اقترن بالتحولات الكبرى التي عرفتها المجتمعات الغربية، والتي انتهت بانتصار الرأسمالية ونهاية الإقطاعية، فكانت مهمتها فهم ما حدث في هذه المجتمعات، وإعادة صياغة المشروع الخاص بها.
لكن حينما يتعلق الأمر بمجتمعات أخرى غير أوروبية، ومنها المجتمعات العربية، فإنّ ثمة سياقات أخرى مختلفة، هي التي تحكمت في نشأة السوسيولوجيا. ومن ثمّ، يطوّر بوطالب قراءةً نقدية لتاريخ نشأة البحث السوسيولوجي في المجتمع المغربي، وذلك بالتركيز على لحظتين بارزتين في تاريخ هذا البحث، تتمثّلان في لحظة بداية تشكّل السؤال السوسيولوجي حول المجتمع المغربي وطبيعته، وهو السؤال الذي اقترن بضرورات سياسية وأيديولوجية أمْلتها الضرورة الاستعمارية المتمثلة في إنجاح عمليات التغلغل الاستعماري، ولحظة بدايات الاستقلال السياسي، حينما تبلورت أسئلة بحثية جديدة حاولت فهم عوامل التخلف وطرائق تحقيق التنمية والتقدم؛ كما اقترنت بإشكالية بناء معرفة متحرّرة من الأحكام والتصورات الكولونيالية التي تشكلت خلال اللحظة الأولى للحضور الاستعماري، فظهر ما أسماه الباحث محاولات بناء سوسيولوجيا وطنية، أو تحرير المعرفة السوسيولوجية من الإرث الكولونيالي. ويخلص إلى أنّ اختلاف السياقات يشكّل مصدرًا للتجديد والإبداع، ويسمح بتحديد الفواصل بين الكوني والمحلي؛ فإذا كان مفروضًا علينا التفاعل مع الآخر، ويستحيل علينا العيش في عزلةٍ تامة، فإنّ ما يسمح بقراءة علمية لواقع مجتمعاتنا، ولتاريخ البحث السوسيولوجي، ليس الانغلاق والتعصّب، بل تأكيد مبدأ التعدّد والاختلاف الذي يجعل المركزية الغربية، أو الأوروبية، واحدةً من ضمن أخريات ممكنات، يمكن أن يتعايش جميعها جنبًا إلى جنب في هذا العالم.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.