الدين والحياة الطيبة
الدين والحياة الطيبة: على الرغم من أن غالب أبناء آدم يتجاهلون سؤال: ما هو المعنى الحقيقي للحياة الطيبة؟ ويمضون حياتهم يوماً بيوم بحثاً عن البقاء أو تحصيلاً للملذات أو تحقيقاً للذات، لكنهم يجدون أنفسهم في مواجهته عندما يفقدون عزيزاً بالموت، أو عندما تواجههم أزمة وجودية تقتلع يقينهم، أو حينما تجابههم أزمة مادية تهدد بقائهم.
ولذلك سيظل سؤال: كيف نحيا حياة طيبة خالدة نتمتع فيها بالنعيم المقيم والخلود الذي لا يفنى؟ سؤالاً قديماً جديداً، سأله أبونا آدم وتطلع إليه وهو في جنة الخلد المقيم، وعندما هبط إلى الأرض، ونسأله نحن أبناؤه منذ هبوطنا على الأرض وحتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة محاولين تحقيق الحلم الأبدي: شجرة الخلد وملك لا يبلى، أو بمعنى آخر حياة طيبة لا تشوبها شائبة ولا يقطعها موت أو ألم.
ويحمل مفهوم الحياة الطيبة في اللغة كل معاني الخير التي تجعل حياة الإنسان سعيدة في الدنيا والآخرة؛ سواء في جانبها المادي أو المعنوي، وهو يلتقي في معناه جزئياً مع مصطلح حديث هو “طيب الحياة well being- أو الرفاه” الذي يركز على الحياة الدنيا، فالحياة الطيبة أو الرفاه أمر يسعى إليه جميع أبناء آدم تقريبًا لأنه يحقق لهم الأشياء الإيجابية التي تشعرهم بالسعادة والاطمئنان، مثل (الصحة، والسكن الآمن، والطعام الشهي، وتحقق الذات، والحب والسكن الاجتماعي، والصلة بالإله والخلود وغيرها من مقاييس السعادة الإنسانية).
ففي سعيها نحو تحقيق الحياة الطيبة لجأت كل المجتمعات إلى الدين تسأله معنى الحياة الطيبة والطريق الموصلة إليها، في حين مالت مجتمعات أخرى إلى الفلسفة أكثر من الدين تسألها السؤال ذاته وتطلب منها الطرق الموصلة إلى تلك الحياة الطيبة، وداخل كل هذه المجتمعات تنازعت أبناء آدم رؤى شتى لمعنى الحياة الطيبة، ففي حين يرى البعض أن الحياة الطيبة تعني السعادة، يرى آخرون أنها تعني جمع المال أو حيازة السلطة أو التمتع بالطيبات، ويراها آخرون في المعاناة في سبيل المبادئ والمثل العليا والجهاد في سبيل تحقيقها، ويراها آخرون في الزهد في الحياة الدنيا والتوجه بالكلية لعبادة الإله انتظاراً للقائه في الآخرة.
ولذلك اختلفت طرق رؤية أبناء آدم لمعنى وطريقة الحياة الطيبة ومعاييرها على مدار تاريخنا على الأرض، فالبعض يربطها بمثل أعلى ديني هو “الله” ويراه آخرون “الضمير“، ويراهم غيرهم “المنفعة”، والميل إلى معيار من هذه المعايير دون غيره في الغالب هو توافقه مع ما تمليه البيئة والسياق الاجتماعي الثقافي الذي يوجد فيه الإنسان ونظرته إلى احتياجات الجسد وتطلعات النفس ومتطلبات الروح، ومن خلال ذلك يحدد الحياة الطيبة التي يود أن يحياها.
الفلسفة الغربية: عناء بلا راحة
عاش أبناء آدم لأزمنة طويلة وهم يعرفون حدود الحياة الطيبة ويستمدون أصولها ومعناها ومبناها من أديانهم وعادات مجتمعاتهم المغلقة عليهم، حتى جاءت حداثة الغرب بسيلها العرم وعولمتها الزاعقة وعطشها اللانهائي للتقدم ففقدت الأصول الدينية للمعرفة سلطانها تاركة إياهم في حالة من التشوش والقلق، وفتحت لهم آفاقاً لا حدود لها للمتعة والاستهلاك لكنها عجزت عن أن تحقق الطمأنينة ناهيك عن تحقيق الخلود.
فقد كان دخول العالم الغربي عصر الحداثة بما جلبه من قيم جديدة ونظرة مختلفة للإله والكون والحياة مؤذنا بدخول عصر جديد من التفكير الفلسفي في معنى الحياة الطيبة اختلف وقطع تماما ما قبله من عصور ساد فيها الإيمان المسيحي في أوروبا.
فقد اتجه نظر الإنسان نحو الأرض بعد أن ظل طويلاً ينظر للسماء وتحول مركز الكون من الإله إلى الإنسان بعد أن تغيرت نظرته للكوكب الذي يعيش عليه وبدأ يكتشف قوانينه ويبتكر أدوات جديدة جعلته سيد أمره وصار التقدم الذي يحققه يوما بعد الآخر يغرس فيه الثقة الكاملة في التقدم اللانهائي والسيطرة على مصيره بعد أن سيطر على الأرض التي يعيش عليها، فظهرت الفلسفات التي تحاول بناء تصور جديد للحياة الطيبة فكانت الفلسفة الليبرالية والداروينية والشيوعية التي رأت الحرية أو المنفعة أو القوة أو الشيوعية هي النماذج الممكنة للحياة.
وأتاحت تلك الرؤية الفلسفية الغربية للإنسان الغربي الاستمتاع بالحياة من دون حدود فطفق يحتل المجتمعات الأخرى ويستعمرها ويغتصب ثرواتها يبني بها حياتها الطيبة الجديدة غير آبه بحياة ملايين من إخوانه من بلاد المستعمرات الذين سخرهم من أجل حياته الطيبة وشقائهم المقيم، وعلى الرغم من بعض الأصوات القليلة التي رفضت ذلك التوجه إلا أن غالب فلاسفة الغرب لم يهتموا بشقاء الإنسان المستعمر وهم يناقشون كيف يحيا الإنسان الغربي حياته السعيدة.
وعندما تأزمت الحياة في أوروبا بعد حربين عالميتين في القرن الماضي بدأت الشكوك تسري في معنى الحياة الطيبة الذي كرسته الحداثة، وتعالت الأصوات التي تحذر من الخراب النفسي الذي أحدثته حداثة التقدم اللانهائي والثقة بالعقل التي أنتجت الفاشية والنازية، وخلفت خراباً في نفوس ملايين الأوروبيين الذين عانوا من ويلات الحداثة المادية والمعنوية، ففقدوا الإيمان ولم يكسبوا الراحة أو الخلود، بل ونقلوا كل هذه الويلات للعالم أجمع.
لذلك كانت العقود بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم هي عقود البحث عن عالم أفضل وحياة أطيب، توجه فيها الفكر الغربي، وفي مقدمته الفلسفة، صوب الإنسان يحلل ويدرس كيفيات بناء حياة طيبة له، لكن على الرغم من كل تلك المحاولات فشل الغربيون في جلب السعادة للإنسان، ولم تحقق عملية حيازة كل أدوات المتعة الحياة الطيبة التي يريدها الإنسان الغربي؛ ناهيك عن حياة الشقاء التي يعيشها غالبية البشر بسبب جشع هذا الإنسان الغربي.
الحياة الطيبة في زمن السيولة
يواجه أبناء آدم اليوم حياة سريعة معقدة ملأى بالمنغصات، فكل شيء في تحول دائم، ولا قرار أو استقرار دائم، فالعمل عرضة للفقد في أي لحظة بسبب تضاؤل القدرات أو تقلبات السوق، والزواج في زمن الفردانية المتطرفة التي رسختها الحداثة السائلة صار مشكلة بعد أن كان حلاً، والأحلام الكبيرة والرؤى الكلية والأنساق الكبرى والنظريات الشاملة تهاوت في زمن القصص القصيرة والمتعة الفردية والنجاة الفردية.
فهل يمكن للدين في هكذا ظروف أن تفتح باباً لليقين والراحة للإنسان؟
الدين والحياة الطيبة
ترتبط الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة بالإيمان بالله الواحد وإتباع هديه المنزل في كتبه التي بلغها رسله والقيام بالأعمال الصالحة التي تنفع المجتمع والتمتع بزينة الحياة الدنيا في حدود الاعتدال والتوسط دونما إسراف يخل بوظيفة الإنسان والحياة وفق المبدأ الإيماني كما عاشها الأنبياء ومن تبعهم على مدار التاريخ، وتتلخص تلك الحياة في الإسلام في الآية الكريمة: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} ( النحل:97) وأي خروج عن الإيمان الصادق والعمل الصالح يعرض الإنسان للحياة “الضنك” التي تعني ضد الحياة الطيبة؛ مهما تمتع بمتع زائلة من السابق الإشارة إليها، { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } (طه: 124).
ويمكن القول إن الدين الإسلامي هو مفتاح الحياة الطيبة لإنسان هذا العصر الذي حيرته الأيديولوجيات، وطغت عليه الأنظمة السياسية فأفقدته حريته، وتداعت عليه الشركات متعدية الجنسيات فأفقدته إنسانيته فصار يلهث وراء متعها وشهواتها التي لا تنتهي دون رواء. لكن الأمر يتوقف على تغيير نظرة الإنسان لهذا الدين من جانب، وقدرة المؤمنين به من الفقهاء أو المفكرين على تقديمه للإنسان في ثوبه الطاهر من جانب آخر.
فقدرة هؤلاء الأخيرين على بيان دور الإسلام في منح الإنسان حياة أكثر رحابة وحرية ويقين وراحة هي الشرط الرئيس لتغيير رؤية أبناء آدم تجاه الدين من النظرة السلبية أو المحايدة إلى التفاعل الإيجابي معه والتعاطي مع نظرته للحياة، وهي المدخل الرئيس الذي يجعل للإسلام دوره الكبير في تغيير رؤية الإنسان وإثراءها بعمق وغنى كبيرين ربما يعوضان كثيراً عن الحرمان الذي يعانيه، بل يمكن أن يكون مفتاحاً لتخلصه من هذا الحرمان المقيم في مختلف مناحي حياته الروحية والمادية على حد سواء.
ولنأخذ مثالاً عملياً، في مجتمعاتنا العربية، يبين ما طرحناه نظرياً: يعاني الشباب في مجتمعاتنا من أزمة عميقة في تصوراتهم للحياة بعد الإفشال والفشل الكبير للثورات العربية والذي تسبب في تهاوي أحلام الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية لدى غالبيتهم، بل وسقوط كثير من القدوات الدينية لديهم، وهو الأمر الذي أوقع تلك الأجيال في حيرة بالغة جعلت الكثيرين منهم يبتعد عن الإيمان الديني بشكل أو بآخر عنيف أو ضعيف.
وهنا تكون عملية تجديد الإيمان الديني مدخلاً جديداً للتفكير في المسألة الدينية وموقعها من عالم السياسة بشكل مختلف يمكن الأجيال الجديدة من فهم العالم والدين ذاته كما هو لا كما قدم لتلك الأجيال، بشكل أكثر مناسبة لعقول هذه الأجيال وتساؤلاتهم، كما أنه فرصة ليطرح الدين رؤية لما حدث وكيف حدث تفيد هذه الأجيال بشكل أعمق من التناول السياسي المجرد لما حدث، وربما ساعتها يمكن أن تطرح أفكاراً جديدة لتناول الشأن السياسي والمؤسسات والقيم السياسية بشكل أكثر فاعلية من الطروحات السياسية الغارقة في لجة اللحظة السياسية التي لا ترى سوى معاركها الصغيرة ومكاسبها أو خسائرها الدنيوية الآنية.
كما يمكن للدين أن يقدم تصورا لحل أزمة أخلاقنا الاجتماعية والاستبداد المقيم بيننا من خلال فكر ديني جديد قادر على اجتذاب الأجيال الجديدة لخطابه المنغمس في قضايا العصر والملامس لمشكلات وأسئلة هذه الأجيال واجتراح الإجابات التي تنتزع إعجابهم وتقتحم أعماق قلوبهم وعقولهم فتمنحها طمأنينة الإيمان القائم على البرهان.
كما أن هذه المقاربة إن كتب لها الوجود أن تمكننا من إنتاج إجابات تنفي من شعور المواطن العربي اليوم “المهدي المنتظر، و”القائد الضرورة”، و”الرجل الوحيد”، و”الحل الوحيد”، و”الجماعة الربانية”، و”المؤسسة العمود”، الذين يصلحون الكون، ويدعون لوعي أسطوري مريض يرسخ الاستبداد، ويلغي خطاب “الرعية” ليحل محله خطاب “المواطن المستخلف المؤتمن”، فتنحل عرى القدرية والجبرية المسيطرة على حياة الناس والتي تحكم سلوكهم وتقودهم إلى الرضا بالعبودية والتبعية والظلم في سبيل الاستقرار ولقمة العيش، أو من أجل الشهادة والجنة والطاعة للقيادات الربانية المعصومة أو التاريخية المحلقة في أفق التاريخ، وهنا تماما تبدأ أسس أي حياة طيبة للفرد والمجتمع.
وهنا مثال آخر يتعلق بقضية من أهم مشاكل اجتماعنا العربي التي يمكن للدين أن يلعب فيها دوراً مهماً، وهي قضية الأسرة العربية والتفكك الكبير الذي باتت تعاني منه، فقد صارت معدلات الطلاق الرهيبة هماً مؤرقاً حسب الإحصاءات المرعبة التي تقول بأن هناك حالة طلاق كل دقيقتين مثلاً في المجتمع المصري، فقد تناولت وسائل الإعلام وعلماء الاجتماع وعلم النفس المسألة من جوانبها المتعددة، لكن الدين لم يدل بدلوه في المسألة كما يجب بسبب جمود وشكلانية الطرح الديني للمسألة.
في حين أن لدى الدين من المخزون المعرفي الإلهي في القرآن والسنة وسيرة الرسول ﷺ ما يجعله قادراً على إنتاج خطاب جديد يوجه للأسر وللشباب المقبلين على الزواج يمكن أن تفتح ثغرة في الجدار المسدود الذي صنعته عادات سلبية تراكمت وتقاليد بالية ترسخت وقيم حداثية زائفة تم تقليدها فجعلت عملية الزواج صراعاً حقيقياً للحصول على الجنس وتكريس قيم النفعية والطبقية لا الحب والمشاركة وبناء أسرة تعد حصناً للأمة لينتهي بزوجين محبطين محطمين بعد طول انتظار وكثرة أعباء لا معنى لها على الإطلاق فينتهي عادة قبل أن يبدأ.
هنا يتقدم الدين ليكون في المقدمة يؤازر علوم الاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد في إعادة رسم صورة الزواج والأسرة عبر تطبيقات عملية تتيح لأجيالنا الجديدة أن تتأمل فعل الزواج باعتباره نظاما اجتماعيا والأسرة كمؤسسة حضارية وليس كما هو حادث الآن.
فالدين قادر على طرح جديد لكافة المشكلات التي يواجهها المجتمع بطريقة تجعل الأفراد والجماعات والمسئولين ينظرون إليها بشكل أعمق وفهم أفضل ومن ثم قدرة أكبر على التعامل معها وابتكار حلول لها. كما يساعدنا في الدخول في عهد الثورة المفاهيمية على تصوراتنا الرائجة، لكن يلزمنا إصلاح متسلسل لدوره ووظيفته في مجتمعاتنا لا يقدر عليه سوى من يقدرون دور الدين ويسعون لوضعه في سياقه الصحيح ومكانه الحقيقي في مؤسساتنا ومناهجنا الدراسية وطرق ممارسة حياتنا اليومية، في قلب هموم الأمة ومطالبها ورؤيتها للحياة.
إن وضع الدين في صلب حياتنا اليومية سيفيد كثيراً على المستوى الفردي والجماعي، فالفرد المدرك لقيمة الدين والقادر على استخدام مفاهيمه بشكل واع يمكنه أن يجعل حياته طيبة أكثر من هذا الذي لا يملك نفس قدراته، فالفرح والحزن والموت والحياة والتحقق الذاتي والفشل فيه بل وكل تفاصيل الحياة الصغيرة يضفي عليها الدين مسحة أكثر عمقاً تجعلنا نتأملها بشكل أكثر جدية ورضا وهو ما ينتج عنه نتائج أفضل من مواجهة الحياة كما هي دون تأمل، والمجتمعات التي تجعل للدين مكانه في مناهج تعليمها وفي صلب نقاشاتها العامة بحسب ما يقوله التاريخ القرآني لحياة الناس تمتعت بقدر أكبر من الحياة الطيبة أكثر من مجتمعات غيرها خلت من الاهتمام بالدين أو نبذته وراءها ظهرياً.
ولذلك فإن المهمة التي يجب أن يأخذها المؤمنون على عاتقهم هي إنتاج خطاب ديني جديد يمكننا من الانتقال من حالة رد الفعل المستمرة على كل ما يقابلنا كأفراد أو مجتمعات؛ والتي هي السمة الطاغية على كثير من مقارباتنا اليوم، إلى خطاب إيماني عقلاني عميق يتأملها ويحاورها ويحللها بشكل عميق ينتج تصورات عملية للتعامل معها.
وهذه المقاربة الدينية الجديدة لقضايانا؛ إن وجدت العناية الواجبة بها، يمكنها أن تلهمنا أجوبة مقنعة للأجيال الجديدة عن كثير من مشكلات مجتمعاتنا، مثل: الإلحاد، والكفران بالأوطان، وقضية فلسطين في مركزيتها في حياة المؤمنين، وتفسخ العلاقات الاجتماعية، وسيادة قيم الأنانية والغش والخداع والتسلط داخل نفوسنا وفي تلافيف عقولنا وبين جدران مؤسساتنا، وتوصلنا إلى مقاربة عملية قابلة للتحقق واقعاً عن الحياة الطيبة ومعاييرها وشروطها مما يضع أقدامنا على أول الطريق الموصل إلى طريق الحياة الطيبة وتحقيق كرامة الإنسان.