هل نحن من نروي تاريخنا أم يُروى لنا؟

هل نحن من نروي تاريخنا أم يروى لنا؟ في زمن تتصارع فيه السرديات وتتنافس فيه الأمم على رسم صورتها في الوعي العالمي، يبرز مشروع “المروية العربية” كأحد أكثر المبادرات الفكرية العربية طموحا وجذرية. وفي ظل العولمة الثقافية وغياب مرجعية موحدة للهوية العربية، يضع هذا المشروع تصورًا معرفيًا متكاملا لإعادة كتابة الذات الحضارية من الداخل، جامعًا بين النقد الفلسفي والتحليل السوسيولوجي والبحث الميداني، ليرد على محاولات تهميش الرواية العربية بالتأصيل العلمي والتفاعل المجتمعي.
ما يميز “المروية العربية” هو جرأته على مساءلة التاريخ لا تمجيده، وعلى قراءة الفلسفة لا تجميدها، وعلى الغوص في العلاقات الحضارية لا الاكتفاء بسرد الأحداث. إنه مشروع يعيد للعرب صوتهم السردي، ليكونوا رواة لحكايتهم لا روايات في حكايات الآخرين.
مشروع “المروية العربية” يبدو في أكثر جوانبه إشراقا، دعوة صريحة للاهتمام بإحياء الهوية، وتحرير السرد، والانخراط في مشروع حضاري عربي نقدي، حتى أن الغوص في أعماق “المروية العربية” يتجلى كأنه رحلة فكرية تسعى لإعادة تشكيل وعي الأمة.
“المروية العربية” .. من سرد الذات إلى مشروع حضاري
في خضم التحولات العالمية وتسارع العولمة الثقافية، تبرز الحاجة الماسة إلى استعادة السرديات الذاتية للأمم، وتحريرها من الروايات المستوردة أو المفروضة. ضمن هذا الإطار، أطلق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية مشروعا فكريا بحثيا رائدا تحت عنوان “المروية العربية”، وهو ليس مجرد برنامج أكاديمي أو نشاط بحثي ظرفي، بل مبادرة استراتيجية تستهدف إعادة كتابة السرد الحضاري للعرب من الداخل، بمنهجية علمية تجمع بين التأصيل المعرفي والتفاعل الاجتماعي.
يأتي هذا المشروع في لحظة مفصلية من التاريخ العربي، حيث يتداخل ضياع الذاكرة الحضارية مع محاولات التشكيك في أصالة العرب واستحقاقهم.
في ظل التحديات الحضارية، والاضطرابات السردية التي تعصف بالأمم، تبرز الحاجة إلى مروية ذاتية، تعيد للأمة وعيها بوجودها، وتربط حاضرها بماضيها بروح التجديد والنقد البناء. إن “المروية العربية” ليست مجرد مشروع بحثي أطلق من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، بل هي إعادة تشكيل لوعي عربي يبحث عن معناه وسط ضجيج السرديات المستوردة، وضياع المرجعية الحضارية.

فلسفة المشروع تنطلق من أن لكل أمة مروية تحكيها وتروى بها، وأن فقدان الذاكرة الجماعية هو فقدان للذات الفاعلة. ومن هنا، تسعى “المروية العربية” لإعادة بناء هذه الذات من خلال مشروع شامل يعيد تأصيل الحضارة العربية في سرديتها التاريخية والمعرفية، بل وفي موقعها العالمي الحضاري.
أولا: الخلفية الفلسفية للمروية العربية
تعرف المروية في هذا المشروع بأنها أكثر من مجرد سرد تاريخي، إنها تعبير عن الذات في أوسع معانيها. فهي “الهوية” و”الذاكرة” و”النسق القيمي” و”الفاعل الحضاري”. المشروع ينطلق من استيعاب خطير بأن أمة بلا سردية ذاتية، تترك فريسة لمرويات الآخر، وتسقط في تيه العدمية والتيه الثقافي.
جاء في نص المشروع: “هي ليست الذاكرة فحسب، بل «الذات» بالمعنى الأوسع؛ فمن فقد ذاكرته فقد نسقه القيمي، كذلك الأمم”. والمعنى أن مشروع المروية هو استعادة هذه الذات الجمعية التي غابت تحت ركام السرديات الاستشراقية، والمناهج الاختزالية، والصراعات الأيديولوجية الحديثة.
ثانيا: الرؤية والمنهجية
الرؤية التي يعتمدها المشروع تقوم على ثلاث عناصر:
- الدراسة السردية للوجود العربي.
- تحليل تطور اللغة العربية داخل الجزيرة وخارجها.
- منهج علمي رصين يجمع بين التحليل المعرفي والأدوات الاجتماعية.
وقد جاء في تعريف الرؤية: “دراسة سردية العرب وسيرة اللغة في الجزيرة العربية وخارجها، بمنهجية علمية رصينة، وبطريقة تجمع بين أدوات تفعيل الأفكار اجتماعيا، ووسائل التأسيس المعرفي، لإنتاج حوارات، ودراسات ميدانية، وقراءات نقدية…”.
وهذا الدمج بين التأسيس السردي والتحليل الاجتماعي يجعل المشروع متفردا، لأنه لا يكتفي بالإجابات الجاهزة، بل يحفز على مساءلة التصورات السائدة عن العرب والعروبة.
ثالثا: المسارات البحثية الكبرى
قبل الدخول في تفاصيل المحاور البحثية التي يقوم عليها مشروع “المروية العربية”، لا بد من الإشارة إلى أن هذه المسارات تمثل العمود الفقري للجهد العلمي الذي يسعى المشروع إلى تقديمه. فهي ليست محاور نظرية فحسب، بل مجالات حيوية تتقاطع فيها الأسئلة التاريخية مع الرهانات الفكرية، وتلتقي فيها التحديات المعاصرة مع الحفر في الذاكرة الجمعية.
وقد صممت هذه المسارات لتكون أطرًا عملية تترجم فلسفة المشروع إلى دراسات وتطبيقات ومبادرات تساهم في إعادة إنتاج المعرفة العربية من منظور ذاتي نقدي، بعيدا عن اختزال الآخر أو سطوة الأيديولوجيات. في ما يلي، نستعرض أبرز هذه المسارات ومحاورها البحثية:
1. كتابة التاريخ وسردية العرب
في قلب مشروع “المروية العربية” تبرز الحاجة الملحّة إلى استعادة الوعي التاريخي للأمة عبر تفكيك البنى السردية التي كُتب بها تاريخ العرب. هذا المسار لا يكتفي بجمع الروايات، بل ينفذ إلى ما وراءها، باحثًا عن المضامين الفلسفية والمقاربات المنهجية التي صاغت هذه السرديات، ساعيًا لتأسيس خطاب تاريخي عربي مستقل عن التلقي السلبي للسرديات المهيمنة.
يركز هذا المسار على تفكيك البُنى السردية التي شُكل منها التاريخ العربي، ومن أبرز محاوره:
- نقد السرديات حول نشوء العرب.
- تحليل مناهج كتابة التاريخ العربي.
- استنباط الأطر النظرية والفلسفية في تلك السرديات.
2. الفلسفة العربية
يأتي هذا المسار ليعيد الاعتبار للفكر العربي الفلسفي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مفهوم الفلسفة العربية ومكانتها. هل توقفت فعلا بعد الغزالي؟ أم أن الفكر الفلسفي العربي استمر في أشكال أخرى؟ من خلال هذا المسار، يراد تفكيك الصورة النمطية عن انقطاع الفلسفة في العالم العربي، وإبراز عمقها التفاعلي مع التراث اليوناني والشرقي، بالإضافة إلى قدرتها على استئناف الدور النقدي والحضاري في مواجهة التحديات المعاصرة.

رغم الادعاءات المتكررة بانقطاع الفلسفة العربية بعد الغزالي، يسعى هذا المسار إلى تفنيد هذه النظرة، وإبراز:
- تأصيل الفلسفة العربية في سياقها اللغوي والروحي
- التفاعل العربي مع الفكر الهيليني والشرقي
- إبراز قدرة الفكر العربي الفلسفي على معالجة قضايا العصر
3. العلاقات بين شعوب البحر الأحمر
لا يمكن فهم الهوية العربية بمعزل عن فضائها الجغرافي البحري، لا سيما البحر الأحمر الذي كان، ولا يزال، معبرا حضاريا وتواصليا هاما. يسعى هذا المسار إلى الكشف عن التبادلات الثقافية واللغوية والاجتماعية بين ضفتي البحر الأحمر، وإبراز الروابط التي أسست لتداخل حضاري غني بين العرب وأشقائهم في القرن الإفريقي.
ومن محاوره:
- إبراز البحر الأحمر كجسر حضاري
- دراسة تأثير العربية على اللغات الإفريقية
- تحليل الأبعاد الدينية والثقافية العابرة للبحر الأحمر
4. الإرث الحضاري في الشرق
لقد كان للامتداد العربي في الشرق، لا سيما في المحيط الهندي وبلاد جنوب شرق آسيا، دور محوري في تشكل المشهد الثقافي والديني في تلك المناطق. هذا المسار يعنى بتتبع آثار الحضور العربي في الشرق، لغويا وثقافيا وتجاريا، مستندا إلى مصادر ووثائق تؤكد على عمق الصلات وامتداد الهوية الحضارية العربية في فضاء جغرافي غير تقليدي.
ومن محاوره:
- دراسة الحضور العربي الإسلامي في شرق آسيا
- تتبع الأثر اللغوي العربي في المجتمعات الشرقية
- تحليل الوثائق والمصادر التاريخية التي توثق هذا الامتداد
5. الذهنية الثورية ومآلاتها
الثورة، بوصفها فعلا احتجاجيا أو تصورا جذريا للتغيير، شكلت جزءا مهما من التاريخ العربي الحديث والمعاصر. في هذا المسار، يتم تحليل الذهنية الثورية بصفتها ظاهرة فكرية وثقافية، وتفكيك أبعادها النفسية والاجتماعية، ودراسة آثارها على حركة الأفكار وصناعة التحولات في المجتمعات العربية، سلبا أو إيجابا.
ومن محاوره:
- فهم جذور الذهنية الثورية
- دراسة تحولاتها عبر التاريخ
- تقييم نتائجها على الحركات الفكرية والسياسية المعاصرة
رابعا: الأنشطة التطبيقية والفعاليات
ينتقل المشروع هنا من الحقل النظري إلى المجال الميداني، باحثا في تمثلات العرب لذاتهم وهويتهم، بين الرؤية الشعبية والرؤية النخبوية. يسعى هذا المسار إلى بناء صورة أكثر واقعية وعلمية عن تصورات العرب والعروبة، عبر استطلاعات ومقابلات وتحليلات نوعية، بما يتيح مراجعة نقدية وجريئة لما يتداول من سرديات داخل المجتمعات العربية.
1. أيام المروية العربية
أقيمت فعاليات متعددة مثل:
- محاضرة: هل كنا مجرد ناقلين للمعرفة؟ (مارس 2023)
- ورشة خاصة: الحفاظ على التراث العربي في العصر الرقمي.
- مؤتمر المروية العربية الثاني (مايو 2024) الذي جمع باحثين من أنحاء العالم لنقاش مكونات المشروع.
2. الدراسات الميدانية
أطلق المشروع مجموعة دراسات حول تصورات العرب والعروبة من داخل المجتمعات العربية، تقارن بين:
- رأي العامة والمتخصصين في قضايا الهوية
- تمثلات العرب عن أنفسهم
- الفجوات المعرفية في إدراك السرد التاريخي الذاتي
خامسا: أهمية المشروع في السياق العربي المعاصر
إن مشروع المروية العربية لا يقرأ فقط كمبادرة فكرية، بل يجب قراءته ضمن معركة الهوية والوجود في العالم العربي اليوم. فنحن أمام مشهد معولم تسعى فيه الأمم إلى تثبيت سردياتها، بينما يعاني العرب من تعدد الخطابات وانعدام المرجعية السردية الواحدة.

وقد أشار الأمير تركي الفيصل إلى هذا المعنى بقوله: “فالحمد لله على نعمه التي أسبغها علينا بأن شرفنا بإنزال كلمته بلغتنا… فإن النهضة لها شروط، والتقدم والتراجع من سنن الوجود الإنساني”.
سادسا: المراجع العلمية والنقدية المؤيدة لفكرة المشروع
لدعم رؤية المشروع علميا، هذه بعض الدراسات ذات الصلة:
- عبد الله العروي في كتابه العرب والفكر التاريخي، أكد على ضرورة أن يصوغ العرب تاريخهم بأنفسهم بعيدا عن الاستشراق
- محمد عابد الجابري في مشروعه نقد العقل العربي، وضح كيف أن التراث بحاجة إلى قراءة نقدية تعيد إليه وظيفته التنويرية لا التقديسية
- علي شريعتي في أطروحاته حول الاستلاب الثقافي، دعا إلى تحرير الذات الإسلامية من “الغرب المركب
- واصلي كمال في دراسته عن “السرديات الوطنية”، بين كيف أن الأمم تتشكل من خلال السرديات الجامعة، لا من خلال التواريخ المتنافرة
نحو سردية عربية جامعة
“المروية العربية” ليست فقط مشروعا لاستعادة الماضي، بل لبناء الحاضر والمستقبل. إنها دعوة للعودة إلى الجذور من أجل القفز نحو الآفاق، عبر فكر نقدي، ومنهج علمي، وإرادة حضارية. إنها بمثابة ميثاق سردي جديد، يعيد بناء الذات العربية، ويوحد حولها جغرافيا متفرقة وتاريخا متنازعا عليه.
في زمن الصراع على السرديات، “المروية العربية” ليست ترفا فكريا، بل شرط من شروط البقاء.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.