ما يهم المسلم

ما سبب استمرار جدال “كروية أم مسطحة”؟


كوكب الأرض يطفو في الفضاء، محاطًا بسماء مظلمة ومليئة بالنجوم. يظهر سطح الأرض بتفاصيل واضحة، مع القارات والمحيطات، مما يعكس جمال كوكبنا.

كثيرة هي العلوم غير النافعة التي يجهد البعض في دراستها أو البحث فيها والتعمق في تفاصيلها، وهي بلا نفع لا على الدارس والباحث ولا على غيره. وحديث المصطفى وهو يستعيذ من أربعة أشياء، أشار إلى أحدها بقوله (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)، بالإضافة إلى الثلاثِ الأخرى (ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها) (1).

معنى هذا أن العلم الذي لا ينفع، هو كل ما لا يؤثر في زيادة إيمانك ورصيدك الأخروي، وإنما يقوم على النقيض ويتسبب لك في إضاعة الجهد والوقت وربما أحياناً المال أيضاً.

من بعد هذه المقدمة المقتضبة، سأورد لك مثالاً من العلم غير النافع الذي صار يستهلك أوقات وجهود كثيرين، حتى تحول ذلك العلم غير النافع إلى مادة للجدال لا يُعرف لها نهاية، ويقاتل المرء بها آخرين، فتراه يدخل ساعات طوالاً في نقاشات وجدالات عقيمة على مختلف المنصات الإعلامية، لا لشيء سوى إثبات صوابية ما يرى ويعتقد. ولك أن تتابع أي منصة من منصات التواصل الاجتماعي لتدرك هذا المشهد عن قرب!

أبرز الأمثلة التي ما زالت النقاشات مثارة حولها إلى يوم الناس هذا، هو شكل الأرض. أهي كروية بيضاوية أم مسطحة؟! وعلى الرغم من أن العلم الحديث تطور ومعه تقنياته وأدواته ومنها الأقمار الصناعية، التي أثبتت بيضاوية الأرض كما تحدث القرآن عن ذلك، إلا أن المجادلين والمقتنعين بأن الأرض مسطحة، يرفضون كل علم يخالف قناعاتهم تلك.

إنّ رفضهم للأدلة الفيزيائية الفلكية بحجج مختلفة، قد نعذرهم بعض الشيء في ذلك المنحى، باعتبار النظريات العلمية هي جهود معرّضة للصواب والخطأ أيضاً. لكن ذلك الرفض أدخلهم في متاهات أخرى لتجد أحدهم على الرغم أنه مسلم موحِّد، لا يقتنع أو يتقبل تأويلات المفسرين للآية الكريمة { والأرض بعد ذلك دحاها} (2)، والدحية في اللغة هي البيضة، وكلمة دحا تعني البسط مع الاتساع والارتخاء نحو الأسفل، كما نقول دحا البطن إذا استرخى وتدلى إلى الأسفل.

إن وافقنا أصحاب نظرية الأرض المسطحة، وعدم قبولهم لتفسير معنى كلمة دحاها، فكيف بهم مع آية التكوير، التي جاءت لتوضح شكل الأرض بصورة أدق، كما رصدتها الأقمار الصناعية الحديثة { يكوّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل } (3) أي أن الأرض لو لم تكن كروية، لكان الوضع إما ليلاً دامساً دائماً، أو نهاراً سرمدياً.

لكن رحمة الله أن جعل الأرض تدور حول نفسها أمام الشمس، فيكون ليلاً في نصفها، ونهاراً في نصفها الآخر. ثم تأتي آية أخرى تدعم كروية الأرض { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وَازَّيَّنَتْ وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً } (4) أي أن القيامة إذا حان وقتها، ونفخ إسرافيل في الصور، فلابد أن يكون نصف الكرة الأرضية في نهار، والنصف الآخر في الليل { أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً } ، هكذا تأويل الآية الكريمة كما في كتب التفسير.

للسلف الصالح أقوال عديدة تؤيد كروية الأرض، منها قول ابن تيمية رحمه الله: «وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة، وهكذا هو في لسان العرب، الفَلَك الشيء المستدير.. قال تعالى { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} والتكوير هو التدوير.. ومنه قيل للكرة: كرة، وهي الجسم المستدير، ولهذا يقال للأفلاك: كروية الشكل.. قال تعالى (الشمس والقمر بحسبان) أي مثل حسبان الرحى، وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما فإنه يتفاوت، لأن زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ليس بعضه مخالفاً لبعض» (5).

اقرأ أيضا

الجغرافيون العرب ورسم الخرائط

نختم حديثنا هذا وحتى لا يطول، بقول للإمام ابن حزم، حيث يقول: «إنّ أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم، رضي الله عنهم، لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يُحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنّة، قد جاءت بتكويرها».

الأقوال في هذا الموضوع أكثر مما يمكن حصرها فضلاً عن ذكرها في هذه المساحة.. فمن شاء أن يقتنع بكروية الأرض كان بها، ومن لم يشأ فلا يهم، بل لن يغير ذلك من واقع الحياة الدنيا شيئاً. لكن الأهم من كل هذا الحديث، ما أنت وأنا وغيرنا فاعلون على هذه الأرض، سواء أكانت كروية أم مسطحة؟ الاشتغال بالإجابة على هذا السؤال أولى وأجدر من الاشتغال بشكل هذا الكوكب، الذي إن أشرقت الشمس عليه من غربه، انتهى أمر الدنيا، وأمر كل شيء حي.

فهل من مدّكر؟


  • (1) – حديث صحيح أخرجه أحمد في مسنده وقد سلف برقم (٨٤٨٨) .
  • (2) – سورة النازعات، الآية 30 .
  • (3) – سورة الزمر، الآية 5
  • (4) – سورة يونس، الآية 24
  • (5) – ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم. (٢٠٠٤). مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ط. مجمع الملك فهد). المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. تم الاسترجاع من النسخة الإلكترونية على موقع المكتبة الشاملة. بيانات الاقتباس داخل النص: (ابن تيمية، ٢٠٠٤، جـ ٢٥، صـ ١٩٣) – وفق نسخة المكتبة الشاملة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى