دانيال بِناك: اِقرأ رغم أنوفهم!

بلغة رشيقة لا تخلو من لمسة كوميدية، يفصح دانيال بِناك (Daniel Pennac ) عن مكنون القراءة، وجوهرها المتعالي على سلطة الواجب المدرسي ومعاييره. من طالب سيء إلى أستاذ للأدب، يتتبع بِناك في عدد من مؤلفاته بعض الأساليب الخاطئة التي جعلت من القراءة عبئا، لاسيما لدى الأطفال والمراهقين، ويعيد اكتشاف القراءة كنافذة للمتعة، وحرية القارئ في التجوال دون إلزام أو قيد.
ولد دنيال بِناك بالمغرب سنة 1944 لضابط في الجيش الفرنسي، وأم يصفها بالقارئة العصامية. اضطرته مهام والده العسكرية لأن يقضي طفولته متنقلا بين بلدان إفريقيا والهند الصينية قبل أن يعود للاستقرار بفرنسا، ويلتحق بمدرسة داخلية في منطقة الألب.
حين يتحدث بِناك عن ميوله القرائية الأولى، فإنه ينسب الفضل لوالده الذي غرس في أبنائه الأربعة حب الكتب والشعر منذ الصغر. بالنسبة لي، يقول بِناك، ترتبط متعة القراءة بالستار الدخاني الذي كان والدي يرخيه حوله لقراءة كتبه. لم يكن يريد سوى شيء واحد: أن نجتمع حوله ونقرأ معه، وهذا ما فعلناه. لذا كانت السنوات التي قضاها في المدرسة الداخلية فرصة لولوج عالم القراءة الرحب، رغم المضايقات التي لقيها هناك، إذ لم يكن يُسمح للأطفال بالقراءة، كما يروي في كتابه “متعة القراءة“، لكونها عملا تخريبيا ومثيرا للعصيان.
أصبح بِناك أستاذا للأدب سنة 1969، بينما لم يكن يتوقع أحد حصوله على شهادة البكالوريا بسبب تعليمه غير المنتظم. وبعد أدائه للخدمة العسكرية ألف كُتيبا بعنوان “الخدمة العسكرية في خدمة من؟” هاجم من خلاله الأساطير المؤسسة لهذا الواجب الوطني، واضطر لتغيير اسمه العائلي احتراما لشعور والده. وبعد عامين قضاهما في البرازيل، حيث ألهمته الرحلة خيوط روايته «الديكتاتور العظيم والأرجوحة” التي قرر نشرها بعد أزيد من عشرين سنة، عاد مجددا إلى فرنسا، واتجه نحو أدب الأطفال ليؤلف باشتراك مع تيودور إليارد كتابين هزليين:” أطفال يالطا”(1976)، و”بابا نويل”(1978).
تبدو روايات بِناك محصلة ذكريات شخصية، واسترجاعا حنونا لما انطبع في حياة الكاتب من أحداث ومنعطفات، غذت تمرده على القوالب التي تُصاغ بموجبها شخصية الطفل وسلوكه واهتماماته. يبدو الأمر جليا في رباعيته الروائية التي استلهم أبطالها من عالم الطفولة والمدرسة، وهي: “كامو، وكالة بابل“، و” كامو وأنا“، و”هروب كامو“، و” كامو وفكرة القرن“.

رغم تفرغه كليا للأدب سنة 1995، إلا أن بِناك واصل انشغاله بعالم الطلاب والفصول الدراسية. في روايته “حزن مدرسي“(2007) ينسج الكاتب خيوطا من ذكرياته الخاصة، مع تأملات ثاقبة وعميقة في أصول التدريس واختلالات النظام المدرسي. تستوقفه بشكل محدد صور معاناة الطالب المتعثر التي جرّبها بكل تأكيد، والشعور بالإقصاء وما يتولد عنه من ألم يتقاسمه الآباء والمدرسون: “طلابنا (الفاسدون) الذين يُنظر إليهم على أنهم بلا مستقبل، لا يأتون إلى المدرسة وحدهم. إنهم كالبصلة التي تدخل الفصل: طبقات من الحزن والخوف والقلق والاستياء والغضب، والرغبات التي لم تتحقق، والاستسلام الجامح. تتراكم على خلفية ماض مخز، وحاضر مهدد، ومستقبل محبط. انظروا! هاهم قادمون، أجسادهم لا تزال في طور النمو، وعائلاتهم في حقائبهم. لا يمكن أن يبدأ الدرس حقا إلا بعد وضع العبء وتقشير البصلة.”(1)
لمجابهة اختلال النظام المدرسي وما يتولد عنه من تزايد النفور من القراءة لدى الشباب، يتوجب علينا أن نعيد للقراءة وظيفتها كوخز يومي، يُشعر القارئ بالحاجة إلى كتاب يخفف من تبلد إحساسه، خاصة في زمن الإعلانات والاستهلاك المفرط: ” نحن نخوض معركة غير متكافئة. لأجيال، رُبي طلابنا تحت وطأة الإعلانات ليكونوا مستهلكين لا مفكرين ومواطنين أحرار.. مع ذلك لا يسعني إلا الشعور بأن صحبة كُتابنا المفضلين تجعلنا أكثر قربا من أنفسنا، وقدرة على الحفاظ على حريتنا في الوجود، والتحكم في رغبتنا في التملك، وإيجاد العزاء في وحدتنا. هذه الحرية هي ما يجب أن نعيده بحكمة لطلابنا الأكثر نفورا من الأدب، وذلك بربطهم بالقراءة.”(2)
لا يمكن استئناف القراءة قبل بحث أسباب النفور والاشمئزاز الذي يُبديه أغلب الطلاب. إنه الأمر الذي يقتضي برأي بِناك إعادة فحص العلاقة المعقدة بين القارئ وفعل القراءة. ولعل ما عرضه من تفاصيل في كتابه “متعة القراءة“، جدير بأن يستوقف المربين والمثقفين، وليس القراء العاديين فحسب، لفهم أسباب هذا العزوف والجفاء إزاء الكتب.
من أبرز ما يميز الكتاب هو حديث المؤلف عن الحقوق العشرة للقارئ، والتي يجب احترامها كي يستعيد الطلاب علاقتهم الحميمة بالكتب؛ ومن ضمنها:
- الحق في عدم القراءة، لكونها فعلا إراديا وليس إلزاما.
- الحق في عدم إنهاء كتاب إذا لم يعد ممتعا.
- الحق في قراءة أي شيء، دون تقيد بالتصنيفات التي يلجأ إليها بعض المربين.
- الحق في الصمت، إذ بإمكان القارئ الصغير أن يكتفي بالقراءة دون تحليل أو مناقشة.
في فصل أول بعنوان (ولادة الخيميائي)، يشدد بناك على أن فعل القراءة لا يتحمل صيغة الأمر، تماما كالحب والحلم. ويُبدي مفارقة ساخرة بين الدهشة التي تعتري الطفل حين يُدشن الوالدان علاقته السحرية بالقراءة، عبر القصص والحكايات التي تؤثث سريره قبل النوم، وبين الضيق الذي لا يخفيه، حين تصبح القراءة جزءا من الواجب المدرسي؛ فيقرر الوالدان التخلي عن عادتهم تلك، مكتفين في الغالب بمشاركته قراءة (الواجب) من أجل الفهم: “القراءة مصيبة الطفولة، والشيء الوحيد الذي تقريبا الذي نعرف أن نشغل الطفل فيه. والطفل لا يحاول إتقان الأداة التي نعذبه بها؛ لكن ضعوا هذه الأداة في خدمة هواياته، وسترون كيف سيبذل مجهودا كبيرا رغما عنكم.”(3)
أما الفصل الثاني الذي يحمل عنوان (يجب أن تقرأ)، فيعرض قصصا وأمثلة لطلاب يقاومون فعل القراءة حين تصبح عملا روتينيا، يُلزمهم بالتحليل وكتابة التقارير، بدل إذكاء حماسهم للتعامل مع الكتاب كمصدر للمتعة. ينتقد الكاتب ما ينشأ عن هذا الأسلوب المدرسي من غرس فكرة خاطئة عن القراءة ك”ضرورة”، لأن الطالب الذي يقرأ كتبا وفق هذا المنظور، سرعان ما يُخلفها وراءه حين ينجح في حياته: “يجب أن تقرأوا.. يجب أن تقرأوا! وماذا لو قام المدرس، بدل أن يُجبر طلابه على القراءة، بجعلهم يشاركونه سعادته الخاصة بالقراءة؟ سعادة القراءة؟ ما هو هذا الشيء المسمى” سعادة القراءة”؟ إنها بالفعل أسئلة تفترض مراجعة عظيمة للنفس.”(4)
وفي فصل ثالث بعنوان (التشجيع على القراءة)، يصف الكاتب تطور حب القراءة في فصل دراسي، يضم طلابا ذوي خلفية أدبية محدودة. ويعرض تجربته كمدرس سابق، ليقدم بدائل تجدد شغفهم الكامن، وتستثير المتعة التي تحجبها التعاليم الإسمنتية في الأساليب التقليدية للتدريس.
برقة صديق وحيوية فنان، يمزج بِناك بين الحقيقة والخيال، لينسج أحداثا تتداخل فيها المستويات، وتتلألأ الكلمات لتجعل من القراءة ورشة إنسانية مفتوحة، يجدد من خلالها الحنين إلى ذكريات سابقة في نفوس الطلاب: “لم يكن لدي أبدا وقت للقراءة، لكن لم يستطع شيء ما أن يمنعني من إنهاء رواية أحببتها. لا تخضع القراءة لتنظيم الوقت الاجتماعي، بل هي كالحب: أسلوب حياة.”(5)
يخصص بِناك فصلا أخيرا لعرض قائمة بحقوق القارئ التي تحرره من إسار القراءة التقليدية، ليختتم بذلك ما يمكن أن نعتبره دليلا تربويا موجها للآباء والمدرسين، يُبقي على شعلة القراءة متقدة. ولأن المدرسة أصبحت حصنا هشا أمام الإعلانات والبدائل الاستهلاكية المفزعة، فلا محيد عن التصدي لعالم يُفرغ وجودنا من مكنون القراءة.




