مقاصد الزواج وآدابه عند الإمام أبي حامد الغزالي
اهتم الإسلام بعقد الزواج اهتماما كبيرا وجعل له طبيعة خاصة، واعتبره ليس مجرد عقد وإنما ميثاق غليظ له شروط وله آداب ومقاصد يجب تحقيقها، وقد فصلت كتب الفقه في الآداب والشروط لكنها لم تول الجانب المقاصدي العناية الكافية، وهو ما التفت إليه نفر من علماء المقاصد ومنهم الإمام الشاطبي صاحب (الموافقات) وسبقه الإمام أبو حامد الغزالي الذي اهتم في كتابه (الإحياء) بالبحث عن علل التشريع ومقاصد العبادات والعادات.
ورد حديث الإمام الغزالي تحت عنوان (آداب النكاح) وذلك ضمن الكتاب الثاني من ربع العادات في الإحياء[1]، لكنه لم يتوقف عند المقاصد وإنما عالج أيضا مسائل تتعلق بآداب المعاشرة بين الزوجين، والخصال الواجب توافرها فيهما، وحقوق كل منهما على الآخر، وسبل دوام النكاح، وبوصفه عالما في الأصول كان يعرج عروجا سريعا أمام المسائل الفقهية مثل أحكام العقد وشروط المتعاقدين وأحكام الفرقة وما إلى ذلك، وبهذا المعنى يمكن اعتبار ما كتبه دراسة فقهية مقاصدية جامعة بين العرض والجوهر.
ينطلق الإمام الغزالي من إشكالية بحثية محددة وهي أن العلماء اختلفوا في شأن الزواج إذ بالغ بعضهم في تعظيمه وزعم أنه أفضل من التفرغ للعبادة على حين مال آخرون إلى تركه معترفين أنه كانت له فضيلة من قبل حيث لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة، وراح يبحث عن وجه الصواب في هذه المسألة.
فحص الإمام الغزالي الأدلة النصية (نصوص قرآنية، أحاديث نبوية، آثار) للفريقين ووازن بينها، وخلص إلى أن أدلة الترغيب في الزواج أوفر عددا وأقوى سندا من أدلة الصد عنه؛ “إذ لم يؤثر عن أحدهم الترغيب عنه إلا مقرونا بشرط، أما الترغيب فيه فقد ورد مطلقا ومقيدا”.
مقاصد الزواج
يفترض الإمام الغزالي أن هنالك خمس مقاصد تدفع المرء نحو الزواج مرتبة على النحو التالي:
- الولد: أو الإنجاب ” وهو الأصل وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الأنس”، وهو مقدم على الشهوة التي ما وجدت في نفس الإنسان إلا ” تلطفا بهما في السياقة إلى اقتناص الولد.. وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب” ، وفي الإنجاب وتحصيل الولد قربة من أربعة وجوه هي: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان ، وطلب محبة الرسول من خلال تكثير من يتباهى بهم، طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده، طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.
- كسر الشهوة: وهي مقصد من مقاصد الزواج أكد عليه حديث (عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء)، وهذا مقصد يلي مقصد الإنجاب رغم ارتباطهما ببعضهما البعض، وحجته أن الأحاديث النبوية ترغب في التزوج بالمرأة الولود فلو كان المقصود تسكين الشهوة لرغبت الأحاديث في المرأة الحسناء لأنها أصلح للتحصين وقطع الشهوة، ويذهب الإمام الغزالي أن ثمة حكمة جلية في الشهوة إذ تندرج تحتها حياتان: حياة ظاهرة ببقاء نسل الإنسان ودوام الوجود، وحياة باطنة هي الحياة الأخروية فهذه اللذة الناقصة بسرعة الانقضاء تحرك في الإنسان الرغبة في اللذة الكاملة الدائمة وتدفعه إلى مواصلة العبادة لتحصيلها[2].
- ترويح النفس: وهو مقصد معتبر إذ أن النفس لا تقوى على التفرغ للعبادة ولابد لها من الملاطفة والترويح عن القلب وإلا ملت ولم تطق أداء العبادة.
- راحة البال: ويقصد به تفريغ القلب عن تدبير المنزل والطهي وتهيئة المعيشة، إذ لو تكفل المرء بأشغال المنزل لضاع أكثر وقته ولم يتفرغ للعلم والعمل.
- مجاهدة النفس: وهو ما يتحقق من خلال الرعاية والقيام بحقوق الأهل والولد، والسعي في تحصيل الكسب الحلال لهم والقيام بتربية الأولاد، وهي أعمال عظيمة وفيها رياضة للنفس إذ “ليس من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط، ولا من صبر على الأذى كمن رفه عن نفسه وأراحها فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله [3]
خصال الزوجين
حتى تتحقق مقاصد الزوجية ويحصل بها السكن ينبغي أن تتوفر في الزوجين خصال معينة، وأما الزوجة فيجب أن تكون صالحة ذات دين “فهذا هو الأصل وبه ينبغي أن يقع الاعتناء” لأنها إن لم تكن كذلك شوشت بالغيرة عليها قلبه وعقله، وأن تكون حسنة الخُلق ويساعده ذلك على التفرغ للعمل والعبادة، وأن تكون حسنة الوجه:” إذ به يحصل التحصن ..وما نقلناه من الحث على الدين، وأن المرأة لا تنكح لجمالها ليس زاجر عن رعاية الجمال بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض مع الفساد في الدين”[4] وأن تكون خفيفة المه، ولودوة فلو علم عقرها فله أن يمتنع عن الزواج، بكرا، وألا تكون من ذوي القرابة القريبة لأن ذلك “يقلل الشهوة”.
وعلى الجهة المقابلة ينبغي على ولي الزوجة مراعاة الزوج “فلا يزوجها ممن ساء خلقه أو خلقه أو ضعف دينه أو قصر عن القيام بحقها أو كان لا يكافئها في نسبها .. والاحتياط في حقها أهم لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها والزوج قادر على الطلاق بكل حال”[5].
حقوق الزوجين وسبل دوام الزوجية
يعالج الإمام الغزالي في الشطر الثاني من حديثه مسألة آداب الزوجية وعوامل استمرارها، وهذا الاستمرار يظل رهنا بأداء كل طرف ما عليه من حقوق إزاء الطرف الآخر، كما افترض، لذا فصل كثيرا في مسألة واجبات كل طرف واستهل بواجبات الزوج تجاه زوجته -على غير عادته- وهو مفهوم ومبرر لأن استمرار الحياة الزوجية أو انتهائها يقع على الزوج.
ووفقا للإمام فإن واجبات الزوج كثيرة وقد أحصاها في أثنى عشر واجبا، ومن أهمها:
- حسن الأدب مع الزوجة مصداقا لقوله (وعاشروهن بالمعروف)، وحسن الأدب لا يعني كف أذاه عنها كما يقول وإنما هو ” احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل.[6]
- التلطف مع الزوجة بالمزح والملاعبة ” فهي التي تطيب قلوب النساء” وذلك تأسيا بالرسول الكريم الذي عرف عنه ملاعبة عائشة وممازحتها.
- ألا يتبسط في الدعابة والموافقة في اتباع هواها إلى حد يفسد خلقها ويسقط هيبته؛ بل يتوسط ويعتدل فإن رأى منكرا أو ما يخالف الشرع شدد في إنكاره وامتعض له.
- الاعتدال في الغيرة “وهو أن لا يتغافل عن مبادي الأمور التي تخشى غوائلها ولا يبالغ في إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن [7]، والغيرة صنفان: غيرة مذمومة وهي التي من غير ريبة، وغيرة محمودة إن كانت في محلها، وسدا لباب الغيرة يقترح عدم دخول الرجال الأجانب على الزوجة وألا تخرج هي إلى الأزواج.
- الاعتدال في النفقة فلا ينبغي أن يقتر عليها ولا أن يسرف بل يقتصد في ذلك “وأهم ما يجب مراعاته في ذلك هو أن يطعمها من الحلال، ولا يدخل مداخل السوء لأجلها فإن ذلك جناية عليها لا مراعاة لها ” حسب قوله.
- التزود بقدر من فقه النساء وتعليمها إياه لتقم بواجبها في هذا الأمر.
- تحرى العدل بين زوجاته إن كانت له أكثر من واحدة.
- التزام آداب الطلاق فهو مباح طالما لم يكن فيه إيذاء بالباطل “ومهما طلقها فقد آذاها، ولا يباح إيذاء الغير إلا بجناية أو بضرورة من جانبه” [8]فقد قال تعالى ( ولا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تطلبوا حيلة للطلاق، ولذلك وجب عليه أن يتلطف في التعلل بتطليقها من غير تعنيف وتطييب خاطرها بهدية أو ما شابه.
وأما واجبات الزوجة على زوجها فهي كثيرة؛ وأعلاها طاعة الزوج في كل ما لا معصية فيه، ومنها الستر والصيانة أي أن تصون نفسها وتصون عرضه، وألا ترهقه بكثرة المطالب وما لا يستطيع حتى تساعده على التعفف وعدم اجتراء الحرام، وألا تفرط في ماله بل تحفظه عليه، وأن تشفق على أولادها وتربيهم على الفضائل.
وبالجملة، جمع الإمام الغزالي في (آداب النكاح) بين النظر الفقهي والمقاصدي وبين فقه الواقع، ومن خلاله توصل إلى أن دوام الزوجية يظل رهنا بوفاء كل طرف بالتزاماته المقررة واحترام حقوق الطرف الآخر.
[1] نشر هذا الجزء من الإحياء في رسالة منفصلة بعنوان (آداب النكاح وكسر الشهوتين) عن منشورات دار المعارف للطباعة والنشر بسوسة، عام 1990، وقد اعتمدنا في إعداد هذا المقال على هذه الطبعة.
[2] آداب النكاح وكسر الشهوتين، ص 17
[3] آداب النكاح وكسر الشهوتين، ص 23.
[4] نفس المرجع السابق، ص 36
[5] نفسه، ص 42
[6] نفسه، ص 44
[7] نفسه، ص 49
[8] نفسه، ص 66.
هل انتفعت بهذا المحتوى؟
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.