حاجة المجتمعات إلى القيادات
دائمًا تتطلع النفس الإنسانية إلى نموذج يشدّها إلى أعلى، ويغذِّي لديها روح المثابرة والأمل واستشراف المستقبل، ويحثها على بذل الوسع واستفراغ الجهد، ومواصلة السير بِخُطى حثيثة نحو الأهداف والغايات. ولهذا، تبرز حاجة المجتمعات إلى القيادات، فالمجتمعات لا تنفك أبدًا عن الحاجة إلى القيادات، وفي مختلف مجالات الحياة. ومجتمع بلا قيادات مُلهِمة، لن يمكنه الوصول إلى شاطئ أحلامه، ولا مواصلة السير نحو أهدافه.
حاجة المجتمعات إلى القيادات إذن هي حاجة إنسانية- مجتمعية، وهي ضرورة من ضرورات العمران، وهي عامل مهم من العوامل التي تدفع التاريخ وتُدافعه، وتمسك بزمامه وتُطوّره. ومهما قيل عن دور “الفرد” وأن الزمن قد يتجاوزه إلى دور “المؤسسة”، فإن من الملاحظ أن دور القيادات ما زال محتفظًا بِأَلقه ومحوريته في التاريخ؛ لأنه حتى “المؤسسة” تحتاج بداخلها إلى نموذج مُلهِم تَنسج على أفكاره، وتمد الخيطَ على استقامته.
ليس كل الناس قادة
ومن المهم أن نشير ابتداءً في مسألة حاجة المجتمعات إلى القيادات إلى أنه ليس كل الناس يصلحون لمراكز القيادة، ولا لأن يكونوا جميًعا نماذج ملهمة استنثائية عبقرية.. وهذا لا يضير أحدًا ولا ينتقص من قدره.
وكما أن المجتمع لا يصح حاله بأن يكون جميع أبنائه في مهنة واحدة، أو يشتغلون بمجال واحد؛ فكذلك ليس من المعقول أن يكونوا جميعًا على القدر ذاته في شروط القيادة ومتطلباتها.
المهم أن يكون لكل فرد من المجتمع دوره وواجبه، وأن يؤدي عمله على أفضل صورة بما يُسهم في دفع عجلة المجتمع إلى تحقيق غاياته.
ولعل هذا المعنى مما يشير إليه حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» (صحيح البخاري). قال ابن بطال: “يريد ﷺ أن الناس كثير والمَرْضِّى منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة؛ وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة فى آخر الزمان، ولذلك ذكره البخارى فى (رفع الأمانة)، ولم يُرد به ﷺ زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل” (شرح صحيح البخارى لابن بطال، 10/ 207).
القيادة موهبة وتنمية
في مسألة حاجة المجتمعات إلى القيادات، يجب أن نعرف أن القيادة موهبة ومنحة من الله تعالى، يميّز بها بعض خَلْقه، ويحمِّلهم بها المسئولية في أداء حق هذه النعمة؛ تعليمًا للناس، وإرشادًا لهم إلى مرافئ النجاة، واستنقاذًا لهم من مواطن الهلكة.
وهذه الموهبة تحتاج لأنْ تُنمَّى، وأن تغذَّى بما يصقلها، وأن تدرَّب بما ينقلها من حالة الفطرية إلى حالة التمكن.. وإلا قد تضيع الموهبة مع ضغوط الحياة، أو تنحرف إلى مسارات مغايرة، بالتوظيف فيما لا تُحمَد عقباه!
وهذا الأمر- ضروة تنمية موهبة القيادة- يستلزم أولاً توفير البيئة الحاضنة المشجعة على استكشاف المواهب والتقاطها، ثم العمل على توفير برامج تدريب وتطوير.
ومن المهم أن نلفت النظر هنا إلى أن هناك بيئات مشجعة للمواهب، ملتقطة لها؛ وبعضها طاردة للمواهب، مميتة لها! فالموهبة مثل النبتة؛ تحتاج لأرض خصبة تحتضنها، ثم إلى مزارع جيد يتعهدها بالسقي والرعاية؛ وإلا قد تبقى في الظل تحت التراب من دون أن يشعر بها أحد!!
حاجة المجتمعات إلى القيادات في كل المجالات
نعم، المجتمعات تحتاج لقيادات في جميع المجالات، وليس في المجال السياسي وحدها، كما قد يظن البعض. في كل مجال نحتاج إلى قيادات فيه، تبتكر الأفكار، وتُلهم العزائم، وتطوِّر الأداء.
في المجال الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو غير ذلك.. نحتاج لقيادات تنفخ الروح في هذا المجال أو ذاك، فترسم الطريق للسائرين، وتأخذ بأيدي عموم الناس إلى أفضل أداء، وأحسن نتيجة.
وهذا يُلقي بالمسئولية على القائمين على كل مجال، أن يضعوا أعينهم على تطوير برامج الدراسة والمتابعة؛ لكي يكون بمقدورها أن تلتقط المواهب الناشئة وتمدها بأسباب التدريب والتطوير. ولهذا نحن دائمًا بحاجة لمراجعة البرامج التربوية والتعليمية، والعمل على تغذية جوانب الإبداع فيها؛ حتى لا تطغى النمطية، أو نستسهل التلقين؛ ومن ثم نصبح أمام نماذج مكررة تعتمد الحفظ وتركن إلى التقليد!!
الأنبياء قادة الحضارات
وهذه العنوان “الأنبياء قادة الحضارات”، هو مما أفدتُه من أستاذنا الدكتور عبد الحليم عويس، رحمه الله؛ ويا لها من كلمةٍ توجز مسيرة التاريخ في بُعْدِها الرِّسالي، وفي بُعدها العمراني أيضًا؛ فالأنبياء جاءوا لِصُنع “نماذج حضارية” في الأرض، كما أن الحضارة الحقة لا يمكن تلمسها خارج “نموذج النبوة” عبر تجلياته في مختلف الأزمنة والتجارب البشرية المتتالية.
وبالمثل، فنماذج القيادة، كما هي في أبهى صورها، قد تجلَّت في مسيرة الأنبياء؛ فهم صفوة الله تعالى من خلقه، وهم القدوات التي جعلها للناس ليأتموا بها، وليسلكوا دربها، وينتهجوا نهجها..
قادة في مدرسة النبوة
وفي المستوى الثاني للقيادات، بعد “مستوى النبوة” بتجلياته المتعددة، نرى “الصحابة” رضي الله عنهم أجمعين نماذج معتبرة في القيادة والقدوة.
لقد اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ؛ فكانوا خير صحب لخير نبي، وخير رفاق لخير رسول.. حتى نقل القرافي عن بَعْض الْأُصُولِيِّينَ قولهم: “لَوْ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةٌ إلَّا أَصْحَابُهُ، لَكَفَوْهُ فِي إثْبَات نُبُوَّتِهِ”.
فالصحابة بما هم نماذج عملية مضيئة، هم دليلُ صدقٍ على عظمة ما يحملون من منهج إلهي خاتم، وعلى نبوة وخيرية من تعهَّدهم بالتربية والتوجيه، ﷺ..
قادة الأفكار
وإذا كنا أشرنا إلى أن المجتمعات بحاجة للقادة في كل المجالات، فإن على رأس ذلك: المجال الفكري؛ لما له من تأثير في غيره من المجالات، ولما له من مكانة في التوجيه والتخطيط والتوعية.
وقيادات المجال الفكري لا بد أن يتحلوا بالقدرة على الإبداع والاجتهاد- الاجتهاد بمعناه الفكري العام، لا الفقهي المتخصص- حتى يستطيعوا أن يرسموا لمجتمعاتهم ملامح طريق النهوض، وأطر مسيرة الحضارة؛ فيكونوا بذلك أَدِلّاء هُدى، وقادة رُشْد.
ولا بد أن يتحلوا أيضًا بفهم رسالتهم جيدًا، ويحيطوا بواقعهم المتشابك.. ويزاوجوا بين “المثالية” و”الواقعية”، دون أن يجنحوا إلى أحد هذين الطرفين..
إضافة لذلك، قادة المجال الفكري عليهم أن يتحلوا بالشجاعة في طرح وجهات نظرهم، وافقتْ من وافقت، أو خالفتْ من خالفت.. وكم هو صعب مواجهة الجماهير بما يخالفها؛ فللرأي العام سطوته وسلطته.. لكن قادة الأفكار لا ينحازون إلا إلى قناعاتهم واجتهاداتهم التي يصلون إليهم بعد تفكير وروية..
بهذه الملامح العامة تتبين حاجة المجتمعات إلى القيادات؛ التي تدفع بمسيرتها إلى الأمام.. على طريق الحضارة والنهوض..
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.