ما يهم المسلم

مسلمات أساسية في التعامل مع نصوص السنة النبوية


هناك جملة من القضايا تعدّ من أساسيّات العلم بالسنة النبوية، وأحسب أنها تمثّل الجذور الفكريّة والمنطلقات المعرفية للمسلم، وتندرج – أيضا – ضمن مسار تنوير العقل، وتبصير الوعي الفردي والجمعي من أجل التحصين الحضاريّ لكيان الأمّة، ورأيت أن أحصرها في خمس قضايا وهي:

المسلّمة الأولى: السنّة النبويّة محفوظة بحفظ الله

وقد ضمِن الله ذلك كما في قوله سبحانه: { إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥلَحَٰفِظُونَ }، وليس حفظها موكولا لشخص أو فرد، بل هي كذلك عند عموم المسلمين، فلم يضع عندهم منها ما تعبّدنا الله به من العقائد والشرائع والأحكام وغيرها، فلا يتصوّر أن تُرفع أو تضيع؛ فهي بيان للقرآن، والرسول كُلّف ببيان الألفاظ والمعانـي والمقاصد، وقد أمرنا الله باتباعه في ذلك، فما دام القرآن محفوظًا فكذلك يكون بيانه محفوظا، ولو احتمل ضياع السنّة أو بعضِها لاختلط الدين، واضطرب التكليف من حيث لا يتحقّق الاهتداء، وضلّ الناس في عباداتهم وحياتهم. فحفظ السنّة هو حفظ للقرآن، لأنّ السنن إذا اندثرت ماتت رسالة القرآن، بذهاب البيان وهو “السنّة” قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾. فقد أسند الله فعل البيان- في هذه الآية- للنبيّ ، وفي سورة القيامة قال تعالى: ﴿إنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِع ۡ قُرۡءَانَهُۥ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ﴾، أسند البيان لنفسه عزّ وجلّ، فدلّ على أنّ بيان النبيّ من بيان الله سبحانه، وقد تكفّل الله بحفظ ذكره وبيانه. قال الإمام ابن حزم: (فصحّ أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس، وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن بيان رسول الله فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه)([1]).

وإنّ الله تعالى قد أكمل دينه وأتمّ نعمته، كما في قوله تعالى في أواخر ما نزل من القرآن: ﴿ٱلۡيَوۡم أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِيناۚ﴾، أفيعقل أن تضيع السنّة ولا تُحفظ ويكون بعدها الدين كاملًا؟ من أين تُعلم تفاصيل الشرائع: الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها؟

وإن ّالله سبحانه قال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰل مُّبِين﴾، فلو كانت وظيفة النبيّ محصورةً في تبليغ القرآن وتعليم حروفه، كما في قوله تعالى: ﴿يتلو عليهم آياته﴾ فقد تلاها -حقّا- عليهم، فما فائدة ذكر التزكية والتعليم؟ وما كان تعليمه؟ وأين هو تعليمه؟ فكيف يحفظ الله القرآن ولا يحفظ معه تعليمه وهو البيان للقرآن؟

وقد يضاف إلى ما قيل: إذا كانت السنّةُ غير محفوظة، فكيف يتصوّر وقوع مخالفة النبيّ المنهي عنها في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؟ وإذا كانت رسالة النبيّ محصورة في تبليغ القرآن، وقد فعل ذلك، ففيم تكون معصيته ومخالفته؟

المسلّمة الثانيـة: السنّة النبويّة الثابتة حجّةٌ ومصدرٌ للتوحيد والتشريع والمعرفة

وهي وحيٌ يلزم اتِّباعه([2])، ولا يسوغ لأحد كائنًا مَن كان ردُّها بعد ثبوتها، قال الإمام الشافعيّ: (وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يُوهِنُه غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمرًا يخالف أمره)([3]). وقال الإمام أحمد: (إذا كان الخبر عن رسول الله صحيحًا، ونقله الثقات فهو سنّة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس)([4]).

والسنّة مصدر للتوحيد كالقرآن، منها تستمدّ قضايا العقيدة، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وأخبار الجنّة والنار، ومقادير الأجور، ومصائر البشر وغير ذلك.

وهي مصدر للتشريع كالقرآن، ومنها يستمدّ الأحكام الشرعيّة من الحلال والحرام ونحو ذلك، والتحليل والتحريم من الرسول من تحليل الله وتحريمه.

وهي مصدرٌ للمعرفة بما أخبرتنا عن قضايا الإنسان في قيام حياته وسعادته، وما دلَّتنا على أحوال الكون وقضايا الغيب من أخبار الأمم السابقة، كيف قامت وكيف زالت، وبما أرشدتنا إلى أسباب القوة والحضارة وغير ذلك.

المسلّمة الثالثة: لا تعارض بين السنّة الصحيحة وآيات الكتاب العزيز:

لأن رسالة السنة في الأصل هي بيان القرآن، وليس يعقل أن يتناقض البيان مع المبين، فبيان السنة إنما هو ذاك البيان الذي أوحاه الله إلى نبيه صل الله عليه وسلم، يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلنَآ إِلَيكَ ٱلذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:44] فنسب البيان في هذه الآية إلى رسوله ، لكن في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦٓ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُۥ وَقُرْءَانَهُۥ فَإِذَا قَرَأْنَٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُۥ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ﴾. نسب البيان في هذه الآية إليه سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن بيان النبي للقرآن من بيان من الله تعالى.

فلا يوجد في الشريعة تناقض بين الحديث الصحيح المستوفـي جميع الشروط وبين صريح القرآن، وإذا وجد ما يتبادر إلى ذهن الباحث أنّ ثمة تناقضا فالجواب عن ذلك: إما أن يكون الحديث غيرَ صحيح في واقع الأمر إذ لم يستجمع كلّ الشروط، بأن يكون فيه علّة خفية – مثلا-، وإمّا أن يكون الخلل على مستوى الفهم والاستيعاب من قبل الباحث أو الناظر، وليس هناك سبب غير هذا. وبالتتـبّع للأمثلة التي أوردها المتعقّبون أحاديث في صحيحَ البخاريّ بدعوى تناقضها مع القرآن لم نجد مثالا سلم من الاعتراض والردّ، وليس فيما ذكروه ما يقنع أو تقوم به الحجّة. (وليس المقام هنا مقام الرد والتفصيل).

فدعوى وجود أحاديث صحيحة- مستوفية لكل شروط الصحيح المعتبرة- مناقضة لصريح القرآن مناقضة من كل الوجوه، وهي في الصحيحين – مثلا- إنما دعوى عارية عن الصحّة، وكلّ ما ادّعوه من ذلك، فحاصل في أذهانهم، ولها تفاسير سهلة لا تحتاج إلى كثير عناء في فهمها.

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (كلّ شيء تكلّم به النبيّ – سمعنا به أو لم نسمعه- فعلى الرأس والعين قد آمنا به، ونشهد أنّه كما قال نبيّ الله عليه السلام، ونشهد أيضًا على النبيّ عليه السلام أنّه لم يأمر بشيء نهى الله عنه، ولم يقطع شيئًا وصله الله، ولا وصف أمرًا وصف الله ذلك الأمر الذي بغير ما وصف به النبيّ، ونشهد أنه كان موافقًا لله في جميع الأمور، لم يبتدع، ولم يتقوّل على الله غير ما قال الله عز وجل، ولا كان من المتكلّفين، ولذلك قال الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ﴾)([5]).

استطراد: مسلك المحدثين النقاد في تحميل نكارة المتن لأحد الرواة في الإسناد:

جرى المحدّثون النقّاد في الحكم على المتن المنكر([6])– ومن المنكر مناقضة الحديث لصريح القرآن- وتعيين سبب نكارته على مسلك السبر والتقسيم([7])، ومن تتبّع طريقتهم في الحكم على الأحاديث وقف على هذا المنهج، فكلّ متن وقعت فيه نكارةٌ فإنّهم يرجعون السّببَ إلى رجالِ الإسناد، فلا يكون صحيحًا حينئذٍ لوجودِ العلّة فيه. وإنّ لهم طريقةً في الكشف عن الرّاوي المتّهم برواية المتنِ المنكرِ بما يمكن أن نسمِّيَه “السّبر والتّقسيم”، لخّصها الأستاذ الدّكتور صلاح الدّين الأدلبيّ في قوله: (ولمعرفة الرّاوي المتّهم، لا بد من اتّباع طريقة السّبر والتّقسيم، أي اختبار جميع رجال السّند، وتقسيمهم إلى درجات من حيث تحمّلُ المسؤولية، واستبعادُ أبعدهم احتمالا عن مسؤولية تلك الرّواية، ثم الذي يليه في بُعد الاحتمال، وهكذا إلى أن يبقى آخر راو في سلم الاحتمالات هو أقرب رجال ذلك الإسناد احتمالا، فتوضع مسؤولية تلك الرّواية عليه، ويقال: إن الحمل على فلان، وغالبا ما يكون رجال السّند ثقات إلا واحدا هو مجهول أو ضعيف فيكون الحمل عليه، أو يكون فيهم أكثر من ضعيف فيكون الحمل على أشدهم ضعفا، أو على من دلت قرائن حاله أنّه المسؤول عن ترويج تلك الرّواية المنكرة)([8]). وذكر العلاّمة المعلميّ رحمه اللّه بيانا آخر فقال: (وتحرير ذلك([9]) أنّ المجتهد في أحوال الرّواة قد يثبت عنده بدليل يصحّ الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له، وأنّ الحمل فيه على هذا الرّاوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النّظر في الرّاوي؛ أتعمد الكذب أم غلِط؟ فإذا تدبّر وأمعن النّظر فقد يتّجه له الحكم بأحد الأمرين جزما، وقد يميل ظنُّه إلى أحدهما إلاّ أنّه لا يبلغ أن يجزم به، فعلى هذا الثّاني، إذا مال ظنُّه إلى أن الرّاوي تعمد الكذب قال فيه: “متهم بالكذب” ونحو ذلك مما يؤيد هذا المعنى)([10]).

 فتحصّل من هذين النّقلين، أنّ أهل الحديث ينظرون في المتن من حيث ثبوتُ أصلٍ له أو لا، ويعتبرون ألفاظه هل هو ممّا يشبه كلام النّبوة أوْ لا، ونحو ذلك، فإنْ ظهر فيه نكارة، حمّلوا أحد رجال الإسناد ذلك بطريقة السّبر والتّقسيم، ثم يتتبعون السّبب؛ فقد يقفون على دليل يفيد تعمدَ الرّاوي أو خطأ فيه، وبناء على ذلك يحكمون على الحديث. لذا يظهر لكثير من الناس من صنيعهم هذا الاعتناء بالسند أكثر من اعتنائهم بالمتن.

مثال ذلك: ما أخرجه الخطيب البغداديّ قال: أخبرنا أبو الفتح محمدُ بن الحسين العطار حدثنا عليُّ بن عبد اللّه بنِ الفرج البردانيّ حدثنا محمد بن محمود السراج حدثنا أحمد بن المقدام أبو الأشعث العجليّ حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختيانيّ عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعاً: “الأمناء عند اللّه ثلاثة: جبريل وأنا ومعاوية. قال الخطيب: (باطل، والحمل فيه على البردانـيّ فرجاله ثقات سواه)([11]). فهكذا حمل نكارة هذا المتن أضعف حلقة في الإسناد وهو البرداني.

مثال آخر:روي عن مالك، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها حديثان، أحدهما: (أن النبيّ لما حجّ مر بقبر أمّه آمنة، فسأل الله عز وجل فأحياها فآمنت به، فردّها إلى حفرتها). والثاني: بهذا الإسناد (أنّ النبيّ كان ينقل الحجارة للبيت عريانًا، فجاءه جبرائيل، وميكائيل، فوزراه، وطفقا يحملان الحجارة عنه شفقة من الله عليه). فهذا إسناد كما ترى كالشمس، لكنّه في الحقيقة مظلم، وهو باطل، والحديثان باطلان موضوعان. ذكر هذا الحافظ ابن حجر في لسان الميزان في ترجمة عليّ بن أحمد العتكيّ نقلا عن “غرائب مالك” للدارقطنيّ أنّه روى عن أبى غزيّة، عن عبد الوهاب بن موسى عن مالك به. قال الحافظ: قال الدَّارَقُطْنِيّ: والإسناد والمتنان باطلان، ولا يصحّ لأبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة شيء، وهذا كذب على مالك، والحمل فيه على أبي غزية، والمتهم بوضعه هو، أو من حدّث به عنه، وعبد الوهاب بن موسى، ليس به بأس)([12]).

إذن لا بد من تحميل هذه النكارة أحد رجال الإسناد، وقد يُختلف في تعيينه بناء على اختلاف مراتبهم عند النقاد. لكن قد وقع لجماعة من الباحثين والكتّاب ذهولٌ عن هذا المعنى، وفاتهم إدراكُ هذا المسلك. ومن استقرأ أحكام النقاد المحدّثين في العمليّة النقديّة وقف على كثير من هذا الذي ذكرت، فليس الإسناد وحده ما يهمّهم، بل لهم في المتن قراءات نقديّة دقيقة.

المسلّمة الرابـعة: لا تعارض بين السنّة الصحيحة والعقل الصريح

فإنّ الله أنزل الشرائع وخلق العقلَ، وتعبّد أصحاب العقول باتباع شرائعه، فهل يخلق الله ما يخالف شرائعه؟ إنّ الغاية من خلق العقل هي موافقة الشرع لمقصد أسمى وهو تحقيق العبودية، فالعقل خلق ليتعبّد كسائر مخلوقات الله تعالى، فإذا كان هذا هو المقصد فهل يعقل أن يكون هناك تصادم بين العقل المخلوق والشرع المنزّل؟ إنّ (الله لا يمكن أن يعطينا عقولا ويعطينا شرائع مخالفةً لها). كما نقل عن ابن رشد، وقال ابن القيم رحِمه الله تعالى: (… فإنَّ الله تعالى ركَّب العقولَ في عبادِه لِيعرِفوا بها صِدْقَهُ، وصدق رسُله، ويَعرفوه بها، ويَعرفوا كماله وصفاته وعظمته وجلاله، وربوبيَّته وتوحيده، وأنَّه الإله الحقّ وما سواه باطل، فهذا هو الَّذي أعطاهم العقلَ لأجله بالذّات وبالقصد الأوّل، وهداهم به إلى مصالح معاشهم، التي تكون عونًا لهم على ما خُلِقوا لأجله، وأعطوا العقول له، فأعظم ثمرة العقل معرفته لخالقه وفاطره ومعرفة صفات كماله، ونعوت جلاله وأفعاله، وصدق رسله والخضوع والذل والتعبد له)([13]). فالعقل الصريح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح، كما قال الإمام ابن تيمية: (العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، ولكن كثيرا من الناس يغلطون، إما في هذا وإما في هذا؛ فمن عرف قول الرسول ومراده كان عارفا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول… وكذلك العقليات الصريحة إذا كانت مقدماتها وترتيبها صحيحا لم تكن إلا حقًّا، لا تناقض شيئا مما قاله الرسول )([14]). وقال أيضا: (إنّ النصوص الثابتة عن الرسول لم يعارضها قطّ صريح معقول، فضلًا عن أن يكون مقدّما عليها، وإنما يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أنّ ما عارضها شُبَه سفسطائية لا براهين عقلية))[15](. وبعبارة مختصرة يُجملها الإمام ابن العربي: (إنّ العقل والشرع إذا تعارضا، فإنّما ذلك في الظاهر بتقصير الناظر)([16]).

استطراد: السنّة الصحيحة قد تأتـي بمحارات العقول لكنها لا تأتي بمحالات العقول

فليس غريبًا أن تأتـي السنّة بما يحتار فيه العقل، لكن لا تأتـي بما يستحيل عقلا، وهذا أمر ينبغي أن يدركه من يريد التصدّي لفهم الحديث والعمل به واستثمار هدايته، فليس في السنّة ما تستحيله العقول، بيد أنّه قد يعسر فهم شيءٍ منها، وذلك راجع إلى الكفاءة العقليّة والفكريّة للقارئ والتمكّن من أدوات الفهم الصحيح. قال الإمام الشاطبي: (الأدلّة الشرعيّة لا تنافي قضايا العقول)([17]).

وقال ابن تيمية: (والأنبياء صلوات الله عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما يعرف الناس بعقولهم أنّه ممتنع، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول)([18]). وقال أيضا: (لا يعلم حديث واحد يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف، بل موضوع، بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه، إلا أن يكون له حديث صحيح يدلّ على أنه منسوخ، ولا يعلم عن النبي صلي الله عليه وسلم حديثٌ صحيحٌ أجمع المسلمون على نقيضه])([19]).

فما عسر فهمُه ولم تتبيّن دلالته ينبغي التأنّـي في الحكم عليه مع البحث في الشروح أو الرجوع فيه إلى الراسخين في العلم.

ثم إنّ كثيرًا من الناس يخلط بين العقل والرأي أو كما يسميه الدكتور محمد نعيم ياسين: (العقل المجرّد والعقل الشخصي)([20])، فإنك تسمع أحدهم يقول: إنّ هذا الحديث يخالف العقل فيلزم ردُّه، والحال أنّه يخالف رأيه هو، لأنّ مخالفة الحديث للعقل ينبغي أن تكون معقولة عند العقلاء؛ فلا يختلفون في ذلك، فلا بدّ أن يُعلم حينئذ أنّ محاكمة الحديث للعقل وردّه عملية لا تنضبط، فأيّ عقل نحاكم به وإليه؟ فإذا كان “عقلِي” يخالف “عقلَك”- في دلالة ما- فأيّ عقل نقدّم؟ وكيف تجعل عقلك هو الحاكم على النصّ وليس عقلي؟ فالمقصود إذن بمخالفة الحديث لصريح العقل “العقل المجرّد” لا العقل الشخصيّ، والذي يردّ به الحديث هو الأوّل إذا كان التعارض فيه تعارضا لا يتأتّى رفعه بوجه من الوجوه بشرط عدم التعسّف، وهو المعتدّ به في النقد الحديثيّ.

وهناك أمر آخر يغلط فيه طائفة من العقلانيين وغيرهم وهو أن ما هو أكبر من العقل لا يعنى بالضرورة أنّه يناقضه، فكثير من هؤلاء لم يفرّقوا بين ما هو أكبر من العقل وبين ما يناقض العقل، فما أخبرنا به النبي من أمور الغيب مثلا – سواء في القرآن أو في السنّة- فقد تكون أكبر من العقل لكن لا تعارضه. قال العلامة ابن خلدون: (…  أنّ الوجود عند كلّ مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحقّ من ورائه، ألا ترى الأصمّ كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات، وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيّات، ولولا ما يردّهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافّة لما أقرّوا به، لكنّهم يتّبعون الكافّة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم … وخلق الله أكبر من خلق النّاس، والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك، والله من ورائهم محيط، فاتّهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشّارع به من اعتقادك وعملك فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك؛ لأنّه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك، وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها، غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التّوحيد والآخرة وحقيقة النّبوة وحقائق الصّفات الإلهيّة، وكلّ ما وراء طوره فإنّ ذلك طمع في محال)([21]).

المسلّمة الخامسة: إنّ كل ما صحّ من أخبار النبي من أمور الغيب حجّة

ولا يجوز أن تقاس على أحوال الدنيا، ولا يتحاكم فيها إلى العقل والرأي، لأنها أكبر من العقل، وفرقٌ بين ما هو أكبر من العقل وبين ما يناقض العقل، فإن من الناس من لا يفرق بين الأمرين فيذهب إلى إنكار ذلك بدعوى مخالفة العقل، كلا، فإن هناك في خلق الله ما لا يستوعبه العقل وهو موجود مشاهد، فلو سألنا هذا الذي يرد النص بعقله حين لم يستوعبه: هل يستطيع أن يشرح كيف يحصل له الفهم شرحا علميا منطقيا؟ كيف تدخل المعلومة رأسه ثم يتحقق له الفهم؟ وكذلك أخبار الغيب – إذا صحت- إنما الحاكم فيها الإيمان والعقيدة الصحيحة. قال الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله: (… يجب فيما يرِد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظهره ولو كان غير معتاد في الدنيا؛ لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم)([22]).

([1])- الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم 1/122، دار الآفاق الجديدة، بيروت، تحقيق أحمد محمد شاكر.

([2])- السنّة في الأصل وحي إلا ما دلّ الدليل على أنّه ليس منه، وذلك بما يثبت من القرائن الصارفة، بل إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صرّح بأنّ له رأيا يراه في قضايا عامة، كما في حديث تأبير النخل حيث قال: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» [رواه مسلم]، وعند أحمد في المسند ومسلم- واللفظ لأحمد-: “إنما هو ظنٌّ ظننته”، فيخرج بذلك اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم كقصّة تأبير النخل، وقصّته مع ابن أم مكتوم رضي الله عنه، الذي نزلت في شأنه سورة عبس، وقصّة اختيار المنزل الذي نزله يوم بدر في حديث الحباب بن المنذر – على ضعفه- وغير ذلك، ونقرأ للإمام الشافعي تعليقا على حديث :”إنما أنا بشر تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع …الحديث، قال- الشافعيّ-: (فقد أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أنه إنما يقضي بينهم بما يظهر له، وأنّ الله وليّ ما غاب عنه، وليستن به المسلمون فيحكموا على الظاهر، … ولو كان القضاء لا يكون إلا من جهة الوحي لم يكن أحد يقضي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنّ أحدا لا يعرف الباطن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم).[الأم 4/12]. وقد وجدنا الإمام النووي يبوب لحديث التأبير في صحيح مسلم بقوله: (وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي). والحاصل أنّه إذا قامت هناك قرينة صارفة لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحي لم يصح عدّها منه. أمّا الذين قالوا إنّ السنّة كلّها وحي فأحرى أن يحمل الأمر على التغليب. والله أعلم.

([3])- الرسالة. الشافعي ص 330

([4])- العدة في أصول الفقه. أبو يعلى 2/ 72.

([5])- العالم والمتعلم، أبو حنيفة، ص 100-102. مكتبة الهدى، حلب، الطبعة الأولى 392ه/1972م. تحقيق محمد رواس قلعه جي، وعبد الوهاب الهندي الندوي.

([6])- كاستنكارهم المتن لمخالفته لصريح القرآن أو صريح العقل أو للتاريخ ونحو ذلك.

([7])- طريقة السّبر والتّقسيم: هي إيـراد مجموعة من الأمور والأوصاف التّي يحتمل التّعليل بها في أمر ما، وبعد حصرها تعرض للاختبار، ويلغى بعضها شيئا فشيئا، حتى يتعين الباقي للعلية. الأدلبي، صلاح الدين، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي ص153، دار الآفاق الجديدة. بيروت، الطّبعة الأولى 1403هـ/1983م. انظر: الجرجاني. الشريف عليّ بن محمد التّعريفات ص155، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ. تحقيق: إبراهيم الأبياري.

([8])- منهج نقد المتن عند علماء الحديث النّبوي الأدلبيّ، صلاح الدّين بن أحمد، ص153

([9])- إشارة إلى قول المحدثين “فلان متّهم بالكذب”.

([10])- التّنكيل بما في تأنيب الخطيب من الأباطيل، المعلميّ 1/222، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1406هـ/1986م. بخدمة محمد ناصر الدين الألباني، زهير الشاويش، عبد الرزاق حمزة.

([11])- تاريخ بغداد الخطيب البغدادي، 12/8

([12])- لسان الميزان ابن حجر، 4/192 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت الطبعة الثالثة، 1406/1986م

([13])- الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة. ابن القيم 4/1236، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1408هـ. تحقيق علي بن محمد الدخيل الله.

([14])- مجموع الفتاوى، ابن تيمية 12/ 80- 82، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد- السعودية، 1425ه/ 2004م.  

([15])- درء التعارض بين النقل والعقل، ابن تيمية 1/155، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية 1411ه/1991م. تحقيق: محمد رشاد سالم.

([16])- قانون التأويل ص647، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ومؤسسة علوم القرآن، بيروت، الطبعة الأولى 1406ه/1986م. تحقيق محمد السليماني.

([17])-الموافقات، الشاطبي 3/ 208

([18])- مجموع الفتاوى، ابن تيمية 11/244

([19])- درء التعارض بين النقل والعقل 1/150. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1411ه/1991م، تحقيق: الدكتور محمد رشاد سالم.

([20]) – مباحث في العقل. محمد نعيم ياسين، دار النفائس للنشر والتوزيع، 2011م.

([21])- تاريخ ابن خلدون 1/582، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ /1988م، تحقيق خليل شحادة.

([22])- مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، عبد الحميد بن باديس ص 185. دار الكتب العلمية بيروت، لبنان. الطبعة الأولى 1416هـ /1995م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى