ما يهم المسلم

حين تبتسم الطفولة في وجه العاصفة


إنّ الطفولة هي المسافة الممتدة من الميلاد حتى بداية المراهقة، وهي الأرض الخصبة التي تتلقى أولى قطرات الغرس من القيم والتربية والمعرفة، لتتحول لاحقاً إلى شجرة مثمرة أو شجرة يابسة تبعاً لما وُضع فيها من بذور ورعاية، فالعالم بالنسبة للطفل جديد لم تُلوّثه بعدُ طبقات الخوف أو تراكمات الخيبة، إنّما هو مساحة مفتوحة للتجربة واللعب والاكتشاف، ومن هنا يمكن القول: إنّ الطفولة ليست فقط أهم مراحل العمر، بل هي أساس البناء الإنساني كله، فهي التي تمنح الفرد شخصيته وملامحه العاطفية والاجتماعية الأولى، وتحدّد كيف سيتعامل لاحقاً مع العواصف التي تعترض طريقه…

أجمل مراحل العمر هي الطفولة

أجمل مراحل العمر هي الطفولة، ليس لأنّها خالية من المسؤوليات الثقيلة فحسب، بل لأنّها تُمثّل الزمن الذي يحتفظ فيه القلب بقدرته العجيبة على الفرح الساذج، والزمن الذي لا يزال فيه الحلم واسعاً بلا حدود، ففي الطفولة يتعلم المرء أول ضحكة، أول دمعة، أول كلمة حب، وأول معنى للخسارة والانتصار، إنّها لوحة من الألوان البسيطة لكنها الأكثر صدقاً وعمقاً، وهي الينبوع الذي يعود إليه الإنسان حين يرهقه الكبر ليبحث عن لحظة صفاء أو ومضة أمل، وما يجعل الطفولة أجمل المراحل ذلك أنّها تحتفظ بالقدرة على التجدّد، فكل يوم فيها هو بداية جديدة، وكل تجربة مهما صغرت تتحوّل إلى درس كبير، إنّها المدرسة الأولى للإنسانية، فحين يمد الطفل يده إلى صديقه في اللعب، وحين يقسّم قطعة حلوى مع أخيه، وحين يندهش أمام طائر يطير في السماء، فإنّه يعلن دون أن يدري أنّه يحمل في داخله بذور القيم التي ستنبت لاحقاً إنساناً صالحاً ومسؤولاً …

العواصف التي تضرب حياة الطفل

لكن الطفولة ليست دائماً جنة مفتوحة، فالعواصف التي تضرب حياة الطفل قد تحوّلها إلى زمن قاس مليء بالندوب، هذه العواصف ليست بالضرورة طبيعية، بل قد تكون اجتماعية أو نفسية أو تربوية، الفقر مثلًا عاصفة تسلب الطفل حقه في التعليم واللعب وتجبره على حمل أثقال تفوق قدرته، فيكبر قبل أوانه ويفقد براءته، العنف الأسري عاصفة أخرى تترك في قلبه خوفاً عميقاً قد يلازمه مدى الحياة، فيتعلم أنّ القوة هي الطريق الوحيد للسيطرة، ويعيد إنتاج هذا العنف حين يكبر، كذلك الإهمال العاطفي يُعد من أشد العواصف، فالطفل الذي لا يجد حضناً آمناً ولا كلمة تشجيع ولا يداً تربّت على كتفه ينمو داخله شعور بالنقص والاغتراب وقد يبحث عن بدائل مدمرة تعوّضه عن ذلك الحرمان، هناك أيضاً العواصف الثقافية والفكرية حين يتعرّض الطفل لمحتوى إعلامي عنيف أو مدمّر، أوحين يُحرَم من حقه في التعبير الحرّ، حتى المدرسة التي يُفترض أن تكون حاضنة للتعلّم قد تتحوّل إلى عاصفة إذا اتّسمت بالضغط المبالغ فيه أو غياب التشجيع، فيغدو التعليم عبئاً بدل أن يكون  فائدة ومتعة .

ومع كل ذلك فإنّ الطفولة قادرة على أن تبتسم في وجه العاصفة إذا وُجدت البيئة الحاضنة والتربية الإنسانية، فهي المظلّة التي تمنح الطفل أماناً نفسياً وتُشعره أنّه ليس وحيداً في مواجهة الحياة، فالطفل كائن شديد الحساسية يتأثر بالكلمة واللمسة والنظرة، وإذا حظي بتشجيع ودعم صادق فإنه يصبح قادراً على تحويل جراحه إلى طاقة بنّاءة، كذلك على المجتمع أن يُسهم بدوره في حماية الطفولة عبر برامج رعاية اجتماعية وتشريعات صارمة تجرّم أي انتهاك لحقوق الأطفال، وإعلام مسؤول يقدّم قدوات صالحة بدلاً من أن يغرقهم في صور مشوّهة…

حماية الطفولة

ومن التوصيات التي يمكن أن تعزز حماية الطفولة: ضرورة بناء وعي مجتمعي بحقوق الطفل، بحيث يُدرك الجميع أنّ الطفل ليس ملكاً لأبويه بل إنسان مستقل له حقوق مصونة، والاهتمام بالصحة النفسية عبر إنشاء مراكز إرشاد نفسي مجانية للأطفال وأسرهم، وتدريب الأهل على كيفية التعامل مع القلق والخوف عند أبنائهم، ولا بد من الاستثمار في التربية الإبداعية التي تمنح الطفل فرصة للرسم والكتابة والرياضة، مع توفير برامج دعم للأسر الفقيرة لأنّ الجوع والحرمان يسرقان الطفولة من جذورها، ولا معنى لأي حديث عن القيم والأحلام إذا لم يكن هناك أساس من الكرامة الإنسانية، ونبين أهمية تأهيل المعلّمين فالمعلّم كلمة واحدة أو ابتسامة منه قد تغيّر حياة طفل بأكملها، لذا لا بد من تدريبه على التربية الرحيمة لا على العقاب والإقصاء وإشراك الأطفال أنفسهم في القرارات البسيطة التي تخص حياتهم، فهذا يعلّمهم الديمقراطية ويزرع فيهم الثقة بالنفس، ولا بد من تعزيز دور الأدب والفن في حياة الأطفال فالقصة والقصيدة واللوحة قد تفتح أمامهم أبواب الخيال وتمنحهم القدرة على مواجهة الواقع بابتسامة أوسع .

ختامها مسك

ومن نافلة القول: إنّ الطفولة هي حجر الأساس في بناء مستقبل الإنسان والمجتمع، وأجمل مراحل العمر وأكثرها تأثيراً، لكنّها في الوقت نفسه المرحلة الأكثر هشاشة وعُرضة للعواصف؛ لذلك فإنّ مسؤولية الأسرة والمدرسة والمجتمع كبيرة في حمايتها وفي منح الطفل ما يستحقه من حبّ وأمان ورعاية، عندما ننجح في تحقيق ذلك فإننا سنرى الطفولة تبتسم في وجه العاصفة، وسنعرف أنّنا لم نحفظ فقط مستقبل فرد، بل ضمنا استمرار إنسانية العالم بأسره، فالطفولة هي الوعد الذي يقدّمه الحاضر للمستقبل وكلما صُنّاها ازدهر الغد، وكلما أهملناها تهدّم كل بناء مهما بدا متيناً، ولعل أجمل ما يمكن أن نتركه للأجيال القادمة ليس الثروات المادية، بل أطفال يضحكون بثقة، يواجهون الحياة بقوة، يبتسمون في وجه العاصفة وكأنّهم يقولون لنا: نحن المستقبل الذي يضيء الطريق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى