فقه الصيام للشيخ فيصل مولوي
هذه المادة تحتوى على باقة من فقه وأحكام الصيام لفضيلة الشيخ فيصل مولوي رحمه الله، كتبت بأسلوب ميسر وعرض كامل يكفي حاجة القارئ الكريم ويعينه على معرفة أحكام الصيام وماله علاقة بشهر رمضان كالتراويح وليلة القدر وسنة الاعتكاف..
ثبوت دخول شَهر رمضان
بداية فإن دخول شهر رمضان يثبت بأحد أمرين:
1 – رؤية هلاله يوم التاسع والعشرين من شَعبان إذا كانت السماء خالية مما يمنع الرؤية وذلك للحديث الصحيح: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته…» (متفق عليه).
ويكفي رؤية هِلال رمضان من قِبل رجل مسلم عدل واحد، لحديث ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيتُه، فصام وأمر الناس بصيامه. (رواه أبو داود، وصحّحه الحاكم).
2 – فإذا تعذَّرت رؤية الهلال، وجَب على المسلمين إكمالُ عِدة شَعبان ثلاثين يوماً وذلك للحديث: « … فإن غُمَّ عليكم، فأكملوا عِدة شَعبان ثلاثين» (متفق عليه).
ويثبت هلال شوال بشَهادة عَدلين اثنَين، ولا تكفي شهادة الرجل الواحِد العدل لأنّه خروج من العِبادة يجب فيه التوثُّق، فإذا تعَذَّرت رؤية الهلال، فيجب إكمال رمضان ثلاثين يوماً.
ويجب على المسلمين التماسُ الهلال عند غُروب الشمس في اليوم التاسع والعِشرين من شَعبان ورمضان، وذلك من فروض الكفاية.
استعمال الحساب والمراصد
اتفق العلماء على جَواز استعمال المراصد لرؤية الهلال، لأن إثباته يبقى مبنياً على الرؤية بالعين، ولو استعملت وسائل مساعدة حديثة. واختلفوا في إثبات الهلال عن طريق الحساب من غير رؤية.
فأكثر العلماء المعاصرين يرون أن إثبات الهلال بالحساب لا يجوز، لأنه مسألة تَعبُّدية يجب الوقوف فيها عند النص. وقد أجمع علماء السلف أن الصوم والإِفطار اعتماداً على النجوم لا يصح لأن علم النجوم حدس وتخمين.
ويقول بعض المعاصرين: إن المقصود من الرؤية تيقُّن ولادة الهلال، وإن الحساب الحديث يُوصل إلى اليقين أكثر من الرؤية، وإن اعتماد إكمال عدة شعبان أو رمضان إلى ثلاثين يوماً، إنما هي وسيلة ثانية لحصول اليقين، ولم يكن أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا هاتين الوسيلتين، فأرشد إليهما، فإذا وجدت وسيلة أخرى يحصل بها اليقين جاز استعمالها، وقد نبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سبب الاعتماد على الرؤية، وهو أن المسلمين لا يعرفون الحساب، مما يعني أنهم إذا تعلّموه أمكن لهم الاعتماد عليه، قال صلى الله عليه وسلم: «نحن أمة أُمية لا نكتب ولا نَحسب، الشهر هكذا وهكذا – أي تسع وعشرون أو ثلاثون -» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي). ومن المعروف أن الحساب اليوم يختلف عن الحساب في الماضي الذي كان يغلب عليه الظن والتخمين.
اختلاف المطالع
إذا ثبتت رؤيةُ الهلال في قُطر من الأقطار، وجَب الصوم على جميع المسلمين في جَميع الأقطار عند أكثر العلماء، لأنه لا عبرة عندهم باختلاف مَطلع الهلال، وهو الرأي الصحيح عند الأحناف. والمختار عند الشافعية أنه يُعتبر لأهل كل بلدٍ رؤيتهم، ولا تلزمهم رؤية غيرهم إلا إذا اتحد مطلع الهلال بين البلدين.
تعريف الصِّيام ومشروعيَّته
الصِّيام هو الإِمساك عن المُفطرات، من طُلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع النِّية. وقد فَرض الله تعالى على المسلمين صِيام شَهر رمضان في السَّنة الثانية للهجرة، ولِليلَتين خلتا من شَهر شعبان.
وتدرَّجت أحكام الصيام في مراحل ثلاث:
- المرحلة الأولى: كان فرض الصّيام فيها على التَّخيير. فمن شاء صام، ومن شاء لم يَصم – ولو كان قادراً – وعليه الفدية طعام مسكين. ذلك قوله تعالى: { وعَلى الَّذين يُطيقونَه فديةٌ طَعامُ مِسْكين } [البقرة: 184]، أي يجب على الذين يقدِرون على الصيام ولا يصومون، أن يطعموا مِسكيناً عَن كل يوم.
- المرحلة الثانية: أصبح فرض الصيام فيها إلزاماً بغير تخيير، ورخص للمريض والمسافر أن يفطر ويصوم بعد رمضان بدل الأيام التي أفطرها. وذلك قوله تعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، ومَنْ كَانَ مَريضاً أَوْ علَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر } [البقرة: 185].
- المرحلة الثالثة: إباحة الطعام والشراب والجِماع من غروب الشمس إلى طلوع فجر اليوم التالي، وقد كان من أحكام الصيام في المرحلتين الأولى والثانية أن الصائم إذا نام حَرُمَ عليه الطعامُ والشراب والجماع إلى اليوم التالي، فشقَّ ذلك على المسلمين، فنزل قوله تعالى: { أُحِلَّ لَكم لَيلَة الصِّيام الرَّفثُ إلى نسائِكم…} إلى قوله تعالى: { وكُلوا واشْرَبوا حَتى يتبيَّن لكمُ الخَيطُ الأبيضُ من الخَيطِ الأسودِ منَ الفَجر… } [البقرة: 187].
وقد أجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان، وأنه ركن من أركان الإِسلام، وأن منكره كافر مرتد.
فضل شهر رمضان والتَّرهيب من الإِفطار فيه
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صامَ رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» (رواه أحمد، وأصحاب السنن).
- وقال: «إذا جاء رمضان، فُتِّحت أبواب الجنَّة، وغلِّقَت أبوابُ النار، وصفِّدَت الشياطين، ونادى منادٍ: يا باغِي الخير أقبل، ويا باغي الشر أَقصِر»، (رواه الخمسة إلّا أبا داود).
- وقال عليه الصلاة والسلام: « قال الله تعالى: كلُّ عمل ابن آدم له إلّا الصِّيام، فإنه لي وأنا أجزي به. والصِّيامُ جُنَّة – أي وِقاية – وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم، فلا يَرفُث، ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ، أو قاتله، فليقل: إني امرؤٌ صائم، والذي نفسُ محمد بيده لخلوف فمِ الصائم أطيبُ عندَ الله من ريح المسك، لِلصائم فرحتان يَفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لَقي ربَّه فرح بصَومه » (رواه الخمسة).
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أَفطر يوماً من رمضان، في غير رُخصة رخَّصها الله له، لم يقضِ عنه صيام الدَّهر كله وإن صامَه »، (رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي).
شروط الصيام
شروط الصيام نوعان:
- النوع الأول: شروطُ الوجوب: – أي الشروط اللازمة ليكون الصيامُ واجباً – وهي: الإِسلامُ، والتكليفُ، والإِطاقة للصيام. فيسقط الصيامُ عن غير المسلم، ويسقط عن المسلم غير المكلَّف، كالمجنون والصبي، وإن كان الصبي يُؤمر بالصيام ليعتاد عليه، ويُضرب عليه إذا بلغ عشر سنين، ويصح منه إذا كان مميّزاً (أي بلغ سبع سنوات).كما يسقط الصيامُ عن الذين لا يُطيقونه أصلاً، كالشيخ الكبير والمريض مرضاً لا يُرجى شفاؤه، وتجب عليهم الفدية.
- النوع الثاني: شروط الأداء أو الصحة: – أي الشروط اللازمة ليكون الصيام صحيحاً مقبولاً – وهي : الإِسلام، والتمييز بالنسبة للصبي، والطهارة من الحيض والنّفاس، لأن الحائض والنّفَسَاء يجب عليهما الصيام ولا يصح منهما إلّا بعد أن تطهرا، فتفطرا طيلة فترة حيضهما ونفاسهما، حتى إذا طَهُرَتَا يجب عليهما أن تصوما بدلَ الأيام التي أفطرتاها، كما يشترط لصحة الصيام أن يقع في يوم لم يُنهَ عن الصيام فيه كأيام العيدين وسواها.
فروض الصيام
وهي اثنان:
- النِّية: لأنها هي التي تُميز العبادات عن العادات، ولا يشترط التلفظ بها لأن مَحلها القلب، فمن تسحَّر قاصداً الصيام فهو ناوٍ، ومن عزم على ترك المفطرات طاعةً لله، فإنَّ عزمه نية. ووقت النية طيلة الليل وحتى طلوع الفجر، وذلك في صيام شهر رمضان، وقضاء الأيام الفائتة من رمضان، وصيام النذر، وصيام الكفارة، فإذا طلع الفجر ولم ينو لا يصح الصيام، وذلك لحديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يُجمع – من الإجماع أي إحكام النيّة والعزيمة – الصِّيام قبل الفجر، فلا صِيام له». رواه أحمد وأصحاب السنن، وصحّحه ابن خزيمة، وابن حبان. أما صيام التطوع، فتصح النية فيه حتى ما قبل الزوال عند الأحناف والشافعية، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: «هل عِندكم شيء؟» قلنا: لا، قال: «فإني صائم» (رواه مسلم، وأبو داود).
- الامتناع عن المُفطرات: من طلوع الفجر الثاني إلى مغيب الشمس، والمفطرات أربعة أنواع :
- كل ما يدخل إلى الجوف عن طَريق الفم، سواء كان طعاماً أو شَراباً يتغذى به الجسم، أو كان شَيئاً لا فائدة منه للجسم. وكل ما يغذي الجسم ولو دخل من غير الفم كإبرة المصل وسواها. أما إبر الدواء سواء كانت في العضل أو في العروق فلا تُفطر.
- القيء عمداً، أما القيء رغماً عنه، فلا يفطر. قال عليه الصلاة والسلام: « من ذرعه – أي غلبه – القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء – أي تعمد القيء – عمداً فلْيقضِ » (رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم وصحّحه).
- الاستمناء، وهو تعمد إخراج المني، سواء كان سببهُ تقبيل الرجل لزوجته، أو كان باليد، فهو مفطر، أما إذا كان سببه مجرد النظر أو التفكر، فلا يُفطر، وكذلك نزول المذي لا يؤثِّر على الصيام.
- الجماع، لأن الله تعالى لم يُبحه في شهر رمضان إلّا في الليل: { أُحِلَّ لكم ليلة الصِّيامِ الرفثُ إلى نسائكم } [البقرة: 187].
ويُشترط في جميع هذه المفطرات أن يفعلها الصائم ذاكراً للصوم، فلو أكل أو شرب أو استمنى، أو استقاء، أو جامع ناسياً للصوم فإنه لا يُفطر سواء كان ذلك في شهر رمضان، أو في غيره، وسواء كان الصيام فرضاً أو نفلاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من نسي – وهو صائم – فأكل أو شَرب، فليُتمَّ صَومَه، فإنما أطعمه الله وسَقاه» (رواه الجماعة).
أنواع حالات الإِفطار في رمضان
حالات الإفطار في رمضان ستة أنواع:
- يجب الفطر على الحائض والنفساء، ويحرم عليهما الصيام، ويجب عليهما القضاء فقط، أي: أن تصوما بدل الأيام التي أفطرتاها. قالت عائشة: «كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنُؤمَر بقضاء الصَّوم، ولا نُؤمر بقضاء الصلاة ». (رواه البخاري ومسلم).
- يجوز الفطر للمريض والمسافر، ويجب عليهما القضاءُ فقط، والصوم في السفر أفضل إن لم يتضرر به، فإن تضرر، فالفطر أفضل، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمِنا الصائم، ومِنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ثم يرون أن من وجد قوة، فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً، فأفطر، فإن ذلك حسن». (رواه أحمد ومسلم). ويشترط لجواز الفطر في السفر أن تكون مسافة السفر هي مسافة قصر الصلاة، وأن يخرج المسافر قبل الفجر، فإذا كان مقيماً، ونوى الصيام وطلع عليه الفجر في بلده، ثم سافر، فليس له أن يفطر. أما إذا كان مسافراً، فنوى الصيام من الليل، ثم أراد في النهار الفطر، جاز له ذلك. ويباح الفطر للمريض إذا كان الصيام يزيد المرضَ، أو يُؤخِّر شفاءه، وإذا صام، صح صيامُه مع الكراهة، لأنه أعرض عن الرخصة التي يحبها الله. أما الحامل والمرضع، فيجوز لهما الفطر، وعليهما القضاء فقط إلحاقاً لهما بالمريض.
- يجوز الفطر للشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض مرضاً لا يُرجى شفاؤه، وليس عليهم القضاء، بل تجب عليهم الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم كما روي عن ابن عباس أنه قال: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه). (رواه الدارقطني، والحاكم، وصحّحاه).
- المفطر عمداً بغير الجماع كمن أكل أو شرب أو استقاء أو استمنى، وكذلك المفطر خطأ، كمن ظنَّ أن الفجر لم يطلع، فتسحر، ثم تأكد له طلوعُ الفجر، أو من ظن غروب الشمس، فأكل ثم تبين له أنها لم تغرب، والمغمى عليه، كل هؤلاء يجب عليهم القضاءُ بلا كفارة بخلاف من أكل ناسياً، فلا قضاء عليه كما ذكرنا.والمفطر خطأً لا إثم عليه، أما المفطر عمداً فإثمه كبير لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أفطر يوماً من رمضان لم يَقْضه صوم الدهر كله وإن صامه» (رواه أحمد والدارمي).
- من أفطر بالجماع عمداً يجب عليه الإِمساكُ بقية النهار والقضاء والكفارة على الرجل باتفاق العلماء، واختلفوا في الكفارة، هل تجب على المرأة أم لا؟ فأوجبها الأحنافُ عليها أسوة بالرجل، ولم يوجبها الشافعية.
- المجنون حتى يُفيق، والصبي حتى يبلغ، والكافر حتى يسلم لا يجب عليهم قضاء ولا فدية.
والكفارة عتق رقبة، فإن عجز، فصيام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً من أوسط ما يُطعم منه أهله. والترتيب واجب عند جمهور العلماء، فلا يصح اللجوء إلى الكفارة الثانية إلّا عند العجز عن القيام بالأولى وذلك بناءً على الحديث المشهور، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكتُ يا رسول الله، قال: «ما أهلكك؟»، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال: « هل تجد ما تعتق رقبة؟ »، قال: لا، قال: « فهل تستطيعُ أن تصوم شهرين متتابعين؟ » قال: لا، قال: « فهل تجِد ما تُطعم ستين مسكيناً؟ » قال: لا، ثم جلس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر، فقال: « تصدَّق بهذا »، قال: فهل على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: « اذهب فأطعِمه أهلَك » (رواه الجماعة).
ومن كرر الجماع في نفس اليوم، فعليه كفارة واحدة، ومن كرره في يوم آخر، فعليه عن كل يوم كفارة إلّا عند الأحناف فعليه كفارة واحدة، حتى إذا نفَّذها ثم جامع مرة أخرى وجبت عليه كفارة أخرى.
قضاء الفائت من الصيام
قضاء الأيام الفائتة من رمضان يجب على التراخي حتى رمضان المقبل باتفاق العلماء. والقضاء كالأداء من حيث العدد، فمن فاته ثلاثة أيام يصوم بدلاً عنها ثلاثةَ أيام فقط. ولا يجب التتابع في القضاء، فيجوز أن يصوم ثلاثة أيام متفرقة، ولكن التتابع أفضل، لأنه أشبه بالأداء.
وإذا دخل رمضان المقبل دون أن يقضي ما عليه من الفوائت، فإن كان ذلك لعذر، فإنه يؤخر القضاء إلى ما بعد صيام رمضان، ولا شيء عليه، وإن كان لغير عذر، وجب عليه القضاء بعد رمضان مع الفدية، وهي إطعام مسكين واحد عن كل يوم.
وإذا مات المسلم، وعليه صيام، فيستحب لوليه أن يصوم عنه، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليُّه» رواه الشيخان. وعند الشافعية، فالولي مخيَّر بين الصيام والفدية، أما مذهب الجمهور، فهو أن يُطعم وليه عنه مسكيناً كل يوم وذلك للحديث: «من مات وعليه صيام أطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً)، (رواه الترمذي وهو موقوف على ابن عمر).
مباحات الصيام
يباح للصائم ما يأتي:
- النزول في الماء، والانغماس فيه للاغتسال، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر»، رواه أحمد ومالك وأبو داود بإسناد صحيح. وإذا دخل الماء إلى جوف الصائم من غير قصد، فصومه صحيح لأنه يشبه الناسي.
- الاكتحال والقطرة في العين، ولو وجد طعمها في حلقه، لأن العين ليست منفذاً إلى الجوف، وكذلك القطرة في الأذن، أما ما يدخل عن طريق الفم والأنف، فهو مفطر.
- المضمضة والاستنشاق دون مبالغة، فإن بلع شيئاً من الماء بغير قصد لا يفطر لأنه يشبه الناسي.
- القبلة لمن قدر على ضبط نفسه، ولا فرق في ذلك بين الشباب والشيوخ، لأن المهم القدرة على ضبط النفس، فمن كان من عادته أن تتحرك شهوته بالقبلة كره له ذلك، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبِّل وهو صائم (متفق عليه) وأن عمر بن الخطاب قبَّل يوماً وهو صائم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صنعتُ اليوم أمراً عظيماً، قبَّلتُ وأنا صائم. فقال صلى الله عليه وسلم: «أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء وأنت صائم؟» قال عمر: لا بأس بذلك، قال: «ففيمَ؟» أي لِم السؤال (رواه أحمد وأبو داود).
- الحجامة: وهي أخذ الدم من الرأس، والفصد: وهو أخذ الدَّم من أي عضو في الجسم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم وهو صائم، (روى ذلك البخاري في صحيحه)، أما إذا كانت تضعف الصائم فهي مكروهة.
- الحقنة الشَّرجية التي تستخرج بها فضلات الجسم، لأن ما يدخل بها إلى الجسم دواء لا غذاء، وهو يدخل من غير المنفذ المعتاد.
- ويباح للصائم ما لا يمكن التحرز منه كبلع الريق، وغبار الطريق، كما يُباح شم الروائح الطيبة، ويباح للمرأة عند الضرورة أن تذوق الطعام، ثم تلفِظه حتى لا يدخل إلى جوفها فتفطر.
- ويباح للصائم أن يستيقظ على جنابة، سواء كانت من احتلام، أو من جماع، والأفضل الاغتسال من الجماع قبل النوم. وقد روت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويصوم) متفق عليه.
- ويباح للصائم الاستمرار في الأكل حتى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر وفي فمه طعام، وجب عليه أن يلفظه، فإن فعل، صح صومه، وإن ابتلع ما في فمه من طعام مختاراً أفطر، والأفضل أن يُمسك عن الطعام قبل الفجر بقليل.
آداب وسنن الصيام
- السحور: قال صلى الله عليه وسلم: تسحَّروا، فإن في السُّحور بركة»، متفق عليه. ويتحقق السحور ولو بجَرعة ماء، ووقته من منتصف الليل إلى طلوع الفجر، ويسن تأخيره.
- تعجيلُ الإِفطار بعد تحقق المغيب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر» متفق عليه. ويستحب أن يكون الإِفطار على رُطبات (تمر) وأن تكون وتراً، فإن لم يجد، فعلى الماء، ثم يصلي، ويتناول حاجته من الطعام بعد ذلك، إلّا إذا كان الطعام موجوداً، فلا بأس أن يأكل ثم يصلي.
- الدعاء عند الإفطار بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب الظمأ، وابتلَّت العُروق، وثبتَ الأجر إن شاء الله تعالى » (رواه أبو داود والنسائي). بالإِضافة إلى دعاء الطعام المعروف: « اللهمّ بارك لنا فيما رَزقتنا وقِنا عذابَ النار ». (رواه ابن السني).
- ترك ما ينافي الصيام من الكذب والغيبة والنَّميمة واللغو والرفث، وسائر ما نهى عنه الإِسلام حتى تتحقق التقوى، وهي غاية الصيام، قال صلى الله عليه وسلم: «ليسَ الصيام من الأكل والشُّرب، إنما الصيام من اللَّغو والرفث، فإن سابَّك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم» رواه الحاكم وغيره، وقال عليه الصلاة والسلام: «من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليسَ لله حاجة في أن يَدع طعامَه وشَرابه»، (رواه الجماعة إلّا مسلماً).
- الإِكثار من الأعمال الصالحة وخاصة مدارسة القرآن، والإِنفاق في سبيل الله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجود ما يكونُ في رمضان حين يَلقاه جبريل، وكان يَلقاه في كلِّ ليلة من رَمضان فيُدارِسه القرآن…) (رواه الشيخان).
- الاجتهاد في العبادة، والمحافظة على السُّنن والنوافل، وخاصة صَلاة التراويح، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قامَ رمضان إيماناً واحتِساباً، غُفر له ما تقدَّم من ذَنبه» (متفق عليه).
- المحافظة على الاستِياك، لحديث عامر بن رَبيعة قال: (رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أُحصي يتسوَّك وهو صائِم). (رواه البخاري).
- ترك المباحات التي سَبق ذكرها إلّا لِضرورة، وخاصة الحجامة والفصد وذوق الطعام، وتأخير الاغتِسال لما بَعد الفجر.
الصيام الواجب
ويشمل ما يلي:
- صيام شهرِ رمضان من كل عام. لقوله تعالى: {… فمن شهد منكم الشهر فليصمه…} [البقرة: 185].
- صيام الكفارات وهي:
- كفارة القتل الخطأ، وهي صيامُ شهرين متتابعين لقوله تعالى: { … ومن قتل مُؤمناً خَطَأ فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وَدِيةٌ مُسلَّمةٌ إلى أهلِهِ إلا أن يصَّدَّقوا فإن كان من قومٍ عدوٍّ لكم وهو مؤمنٌ فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاقٌ فَديَةٌ مسلَّمةٌ إلى أهلِهِ وتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ فمن لم يَجدْ فصيامُ شهرين متتابعين…} [النساء: 92].
- كفارة الجماع في رمضان عمداً أثناء الصيام، وهي صيامُ شهرين متتابعين كما ذكرنا في الفقرة الخامسة من أحكام الإِفطار في رمضان.
- كفارة حِنث اليمين: وهي صيامُ ثلاثةِ أيامٍ عند عدم التمكن من إطعام عشرة مساكين لقوله تعالى: { … ولكنْ يُؤاخذكُمْ بما عقَّدْتم الأَيْمان فكفارتُهُ إطعامُ عَشَرةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطعمونَ أهليكم أو كسوتهم أو تحريرُ رقبةٍ فمن لم يجد فصيامُ ثلاثةِ أيام… } [المائدة: 89].
- كفارة البَدَل في الحج: لمن وجب عليه الذبح ولم يستطع، وهي صيامُ عشرة أيام لقوله تعالى: {… فمن تمتَّعَ بالعُمرةِ إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِ وسبعةٍ إذا رَجَعْتُمْ تلكَ عَشَرةٌ كاملةٌ… } [البقرة: 196].
- كفارة الظِّهار: وهي صيامُ شهرين متتابعين لقوله تعالى: { والذين يُظاهرون من نسائِهم ثم يعودون لما قالوا فتحريرُ رقبة من قبلِ أن يتماسَّا ذلكم توعظونَ به واللَّهُ بما تعملونَ خبير * فمن لم يجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ من قبلِ أن يتماسَّا…} [المجادلة: 3، 4].
- صيام النذر، والنذر المعلَّق في جميع الحالات مكروه، ولكنه إذا انعقد وجب على المسلم الوفاء به لقوله تعالى في وصف المؤمنين: { … يوفون بالنذر…} [الإنسان: 7]، ولقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوْفوا بالعقود… } [المائدة: 1].
الصيام المنهي عنه
يشمل الصيام المنهي عنه ما يلي:
- صوم يومي العيدين، لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن صوم يومين: يوم الفِطر ويوم النَّحر. متفق عليه. وقد أجمع العلماء على تحريم صيامهما.
- صوم أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيامُ التَّشريق أيامُ أكل وشرب وذِكر الله عزّ وجلّ» رواه مسلم. وقد أجاز الشافعية صيام أيام التشريق إذا كان لذلك سبب من نذر أو كفارة.
- صوم يوم الجمعة منفرداً، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَصوموا يوم الجمعة إلّا وقبله يوم أو بعده يَوم» رواه الشيخان، أما إذا صادف يوماً يعتاد صِيامه، أو إذا صامَ يوماً قبله أو بعده، فهو جائز.
- صوم يوم السبت منفرداً، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصوموا يوم السبت إلّا فيما افتُرِض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلّا لحا عِنب – أي قِشر عنب – أو عود شجرة فليمضَغه ». رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم، أما إذا صادف يوماً يعتادُ صيامه، أو إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده، فهو جائز.
- صيام النصف الثاني من شَعبان، إذا لم يكن يصوم قبله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا انتَصف شعبان فلا تَصوموا » رواه أصحاب السنن. والفقهاء يقولون بكراهة الصيام بعد منتصف شَعبان، إلّا لمن كان له صيام معتاد، فَيستمر عليه. ويتشدَّد النهي قبيل رمضان بيوم أو يَومين وذلك للحديث الآخر: « لا تَقدَّموا رمضان بصَوم يومٍ ولا يَومين، إلّا رجلاً كان يَصوم صوماً فليَصمه» متفق عليه. ويتأكد النهي عن صَوم يوم الشكِّ، وهو يومُ الثلاثين من شَعبان، لقوله صلى الله عليه وسلم: « من صامَ اليوم الذي يُشكُّ فيه، فقد عصا أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم ». رواه أصحاب السنن والحاكم وقال: حديث صحيح على شَرط الشيخين.
- صيام يوم عرفة لمن يكون في عرفة لحديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عَرفة بعرفة. رواه الخمسة غير الترمذي، وصحّحه الحاكم.
- صوم المرأة تطوعاً بغير إذن زوجها، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يَحل للمرأة أن تصومَ وزوجها شاهد – أي حاضر – إلّا بإذنِه، غير رمضان » متفق عليه.
- الوِصال في الصوم وهو أن لا يأكل الصائم شيئاً، ويصل صيام اليوم بالذي يليه، وذلك لحديث ابن عمر: « أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوِصال قالوا: إنك تُواصل، قال: إني لستُ مِثلكم، إني أُطعَمُ وأُسْقَى» متفق عليه.
- صوم الدهر لحديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا صام من صام الأبد » متفق عليه.
- ومن الصيام المنهي عنه: صيام الحائض والنّفساء، وهو محرّم، وصيام المريض والمسافر والحامل والمرضع، والشيخ الكبير إذا خافوا من الصوم مشقةً شديدة، وهو مكروه.
صيام التطوع
من السنّة الصيام في الأيام التالية:
- صيام ستة أيام من شوال لحديث رَسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر» رواه مسلم. والأفضل صومُها متتابعةً عقب العيد.
- صيام الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة لِحديث حفصة: أربعٌ لم يكن يَدعهن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر – أي من ذي الحجة – وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة. (رواه أحمد والنسائي). ويتأكد صيامُ يوم عرفة لغير الواقف بعرفة بالحديث: «صوم يوم عَرفة يكفِّر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفِّر سَنة ماضية»، (رواه الجماعة إلّا البخاري).
- صيام شهر المحرم، وذلك لحديث أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: « الصلاةُ في جَوف الليل »، قيل: ثم أي الصِّيام أفضل بعد رمضان؟ قال: « شهر الله الذي تَدعونه المحرَّم» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. ويتأكد صيام عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم بالحديث: « إن هَذا يوم عاشوراء، ولم يُكتب عليكم صيامُه، وأنا صائم، فمن شاء صام ومن شاء فليفطر » (متفق عليه)، ويُسنّ للمسلم صيامُ يوم قبله ويوم بعده أو أحدهما مخالفة لليهود، ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لئن بقيتُ إلى قابل – العام المقبل – لأصومنَّ التاسِع – أي مع العاشر» (رواه مسلم).
- صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وذلك لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخَميس، فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائِم » (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
- صيام ثلاثة أيام من كل شهر لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صومُ ثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر كله» (متفقٌ عليه). وفي حديث أبي ذر يحدد هذه الأيام بأنها الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
- صيامُ يوم وفطر يوم، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: « وصُم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصِّيام»، قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال: « لا أفضلَ من ذلك » (متفق عليه).
- الصيام في الأشهر الحرم، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ من باهلة: «… صُم من الحُرم واترك، صم من الحُرم واترك، صم من الحُرم واترك» (رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والبيهقي بسندٍ جيد). والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، ورَجب.
- صيام أكثر شعبان، لحديث عائشة: ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم استكملَ صيام شهرٍ قط إلّا شهر رمضان، وما رأيتُه في شهر أكثرَ منه صياماً في شَعبان. (رواه البخاري ومسلم).
والصائم المتطوع يجوز له أن يُفطر خلالَ النهار، ويستحبُّ له قضاءُ ذلك اليوم، وذلك للحديث: « الصائمُ المتطوع أميرُ نفسه، إن شاء صامَ وإن شاء أفطر» رواه الحاكم، وقال: صحيح الإِسناد، ولحديث أبي سعيدٍ الخدري، قال: صنعتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتاني هو وأصحابه، فلما وُضِع الطعام، قال رجل من القوم: إني صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « دعاكم أخوكم، وتكلَّف لكم »، ثم قال: « أفطِر وصم يوماً مكانه إن شِئت» (رواه البيهقي بإسناد حسن).
صلاة التراويح
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد – أي صلاة التراويح – فصلّى بصلاته ناس، ثم صلّى الثانية، فكثر الناسُ، ثم اجتمعوا في اللَّيلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: « رأيتُ الذي صنعتم فلم يَمنعني من الخروج إليكم إلّا أني خشيت أن تفترض عليكم »، (رواه الشيخان).
وكان المسلمون يصلّون التراويح – وهي قيام رَمضان – فُرادى في المسجد أو في البيوت، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم وصلّى بهم إماماً، كما في الحديث السابق. وفي أحاديث أخرى أنه كان يقوم مع أصحابه في العشر الأخير وفي الليالي الوتر، وبقي الأمر كذلك حتى السنة الرابعة عشرة للهجرة، فعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رَمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع – أي جماعات – متفرقون: يصلّي الرجل لنفسه، ويُصلي الرجل فيصلي بصلاته الرَّهط – من ثلاثة إلى عشرة – فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد – أي إمام واحد – لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثم خرجتُ معه ليلة أخرى والناس يُصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نِعْمَ البِدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون – يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله – رواه البخاري.
وقد سمّى عمر بن الخطاب صلاة الناس جَماعة في التراويح: بدعة تجاوزاً، وهو لا يقصد بذلك البدعة المنكرة التي نَهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن البدعة المنهي عنها هي ما لم يَكن لها أصل في الدين، وقد رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع المسلمين في صلاة التراويح وصلّى بهم إماماً، وأتى عمر فنظَّم اجتماع المسلمين في صلاة التراويح على إمام واحد وجعله دائماً؛ وهذا العمل يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «من سَن سنَّة حسنة فله أجرها وأجرُ من عَمل بها إلى يَوم القِيامة» رواه مسلم، وذلك لأن السنّة الحسنة هي ما كان لها أصل في الشريعة.
ليلة القدر
ليلة القدر هي أفضلُ ليالي السنة، لقوله تعالى: {إنّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدر وما أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدر لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن ألفِ شهرٍ تَنزَّلُ الملائِكَةُ والرُّوحُ فيها بإذنِ ربِّهم من كلِّ أمرٍ سلامٌ هيَ حتى مطلع الفجر} [سورة القدر].
وقد شجَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيامها فقال: « من قامَ ليلةَ القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه » (متفقٌ عليه).
وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الليلة من بين اللّيالي الوتر من العشر الأخير من رمضان، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تحرَّوا ليلةَ القَدر في الوِتر من العَشر الأخير من رَمضان » رواه البخاري. فمنهم من يَرى أنها ليلة الحادي والعِشرين، ومنهم من قال: إنها ليلة الثالِث والعشرين، ومنهم من يقول: إنها ليلة الخامِسِ والعشرين، ولكن أكثرهم على أنها ليلة السابع والعشرين من رَمضان.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم: « إذا دخل العَشرُ الأخير مِن رَمضان أحيا اللَّيل كلَّه، وأيقظ أهلَه وشَدَّ المِئزَر » (متفقٌ عليه).
وقد سألتْ عائشةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن علمتُ أيّ لَيلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها ؟ فقال: « قولي: اللّهمّ إنَّك عفوٌّ تُحبُّ العفو فاعفُ عَني » (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
الاعتكاف
الاعتكاف: هو اللبث في المسجدِ للعبادة، ويُستحسن في العشر الأواخر من شهر رمضان، مع شَرط النية والطَّهارة من الجَنابة والحيض والنِّفاس.
وهو سُنّة فَعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عَليه. فعن عائِشة رضي الله عنها: « أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعتكف العَشر الأواخر من رمضان حتى تَوفّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجُه من بَعده ». متفق عليه.
ويسن أن يبدأ به عقب صَلاة الفجر لحديث عائشة قالت: « كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يَعتكف، صلّى الفجر ثم دَخل معتكفه» متفق عليه.
ويسنُّ عدم خروج المعتكف من المسجد إلّا لحاجة ماسَّة، فلا يَعود مريضاً ولا يَشهد جنازة ولا يَمس امرأة ولا يباشِرها.
والاعتكاف فرصة للتخلي عن هُموم الدُّنيا ومَشاغِلها، والانصراف إلى العبادة وقِراءة القُرآن وذِكر الله، والإِكْثَار من الدُّعاء، والاستغفار والتسبيح، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن آدابه ألّا يتكلّم المعتكف إلّا بخير، وأن يتجنّب كل ما يشغله عن طاعة الله، وأن يختار مَسجداً جامعاً. أما المرأة فأفضل اعتكافها يكون في مَسجد بَيتها.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.