ما المغزى من سورة الحاقة؟
ما المغزى من سورة الحاقة؟ قال تعالى : { ٱلۡحَآقَّةُ * مَا ٱلۡحَآقَّةُ * وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ } (الحاقة : 1 -3). سؤال لا يمكن للعقل البشري أن يجد إجابة عليه. هكذا يسأل الله قارئ القرآن وكل من يسمع بدايات سورة الحاقة. يعرض سبحانه في المرة الأولى كلمة “الحاقة”، وهي من أسماء يوم القيامة، يسأل عنها. ثم في المرة الثانية يؤكد سبحانه على عظمة ومكانة هذا اليوم بقوله: “وما أدراك ما الحاقة”.
عادةً ما تجد الإجابة من السائل بعد قليل من الوقت إن رأى عجزك عن معرفتها. لكن لم يوضح القرآن ماهية هذه الحاقة، لتستمر الآيات تأخذك إلى أجواء لم تدرك كنهها العقول البشرية في أي زمان، بل لن تدركها كذلك مهما بلغت من الذكاء والقدرات التي عليها اليوم، وفي المستقبل.
لهذا، وحتى يبدأ عقلك البشري في فهم مغزى الآيات الأولى من سورة الحاقة، تجد القرآن يسرد لك على الفور قصص جبارين متكبرين: قوم عاد وثمود ثم فرعون موسى وقرى قوم لوط، فعودة سريعة إلى قوم نوح، عليه وعلى نبينا وإخوانه الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى السلام.
حتى تفهم طبيعة هذه الحاقة، يسرد لك القرآن قصص أقوام جبارة ما ظهر مثلها في التاريخ: قوم عاد وثمود، الذين كذبوا بالقارعة، وهو اسم جديد للقيامة. لكنك لن تقدر على فهم طبيعة هذه القارعة أيضًا كما الحاقة، ولكن من السياق ستدرك أن تلك الأسماء تدل على أنها أسماء ليوم قادم رهيب لا ريب فيه، ليس كأيام البشر مطلقًا، بل لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله، إلا من كانت فطرته سليمة. لا أقول يمكنه تخيل عظمة ذلك اليوم، لكن بفطرته السليمة يمكنه الإيمان به وبحقيقته.
إنها الحاقة إذن، وهي القارعة. إنه اليوم المشهود المرتقب الذي لا ريب فيه عند المؤمنين. يكفيك أن تسمع الاسمين حتى يرتجف القلب وأنت تحاول تخيّل ماهية هذا اليوم أو بعض ما فيه، والذي بتكذيب أقوام جبارة قوية في بنيانها المادي وأجسادها البشرية لحقيقته، جاءهم من الله ما جاءهم.
الطاغية والريح العاتية
قوم أهلكهم الله في ثوان معدودة وهم قوم ثمود، أهلكهم بالطاغية التي فسرها القرآن في موضع آخر بالصيحة، التي لا يُعرف طبيعتها أو ماهية تلك القوة المادية التي أهلكت شعبًا كاملًا في ثوان معدودات، جزاء تكذيبهم وعدم اعترافهم بحقيقة يوم القيامة، أو يوم البعث والنشور، والحساب والجزاء.
قوم آخرون امتد وقت تطهير الأرض من ظلمهم لأنفسهم وغيرهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسومًا. عاشوها تحت وطأة ريح صرصر عاتية. قيل ريح باردة مستمرة، شديدة الهبوب، تقطع الجسم البشري إن تعرضت له. وهم، أي قوم عاد، رغم قوتهم البدنية وضخامة ومتانة بنيانهم التي كانوا يعيشون فيها، لم ينفعهم الاستتار بها ولا الخروج إلى الجبال والاختباء في الكهوف، وكأنما تلك الريح هبت وهي تعرف اتجاهها نحو كل متكبر جبار، تبحث عنهم ولو كانوا في أعماق الجبال أو بيوتهم الشاهقة، لتنسف أجسادهم نسفًا.
ثم تتوقف تلك الريح بعد المدة المقررة، ليظهر مشهد الناس وهم صرعى كأعجاز نخل خاوية لا شيء فيها – كما يقول الرازي في تفسيره – ووصف النخل بالخواء، يُحتمل أن يكون وصفًا للقوم، فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.
ثم يواصل القرآن سرد قصص قرى المؤتفكات وهم قوم لوط – عليه السلام – وفرعون موسى وجنده ونهاياتهم الأليمة، ليعود مرة أخرى بالزمن للوراء ليتحدث عن هلاك قوم نوح، ودعوته سبحانه للبشرية لشكر الله على أن أبقى أصولهم عبر من كانوا على متن سفينة نوح – عليه السلام – من أجل أن تبدأ البشرية مسيرة جديدة بحسب فطرتها التي فطر الله الناس عليها. توحد الله ولا تشرك به شيئًا، وتؤمن باليوم الآخر، لا تشكك فيه أو تكذبه.
القيامة.. قمة العدالة
كل تلك المقدمات من القصص وبشكل بياني قصير معجز، إنما الهدف من سردها هو تهيئة النفس القارئة للقرآن والمستمع إلى آياته، مسلمًا كان أم غيره، للإيمان الجازم والقاطع بأن القيامة حق، وأن البعث والنشور والحساب والجزاء، حقائق لا يجوز أبدًا التشكيك فيها أو تكذيبها. وما لقي أولئك القوم مصارعهم الأليمة، إلا جزاء تكذيبهم أو حتى تشكيكهم بتلك الحقائق.
ما خلق الله البشر ليعيش أحدهم حينًا من الدهر يستمتع بحياته، يصول ويجول فيها، سواء عدل فيها أم ظلم هذا وذاك وتلك، ثم ينتهي بموته وفنائه ولا شيء بعد ذلك. لا، لا يمكن أن يحدث مثل هذا، بل هذا معاكس للمنطق السليم، وخاصة إن تأملنا علاقات البشر بعضهم ببعض وهي متداخلة متشابكة، فيها حق وباطل، وظلم وعدل، وغيرها من المتناقضات، فهل يعقل أن تنتهي كل تلك المتناقضات دون مراجعات ومحاسبات؟ لابد إذن أن يتبع كل تلك الأمور الدنيوية حساب وجزاء أخروي. المحسن يجازى على إحسانه، والمسيء على إساءته، وهذا بالطبع لا يكون إلا في يوم محدد علمه عند ربي، يجتمع فيه البشر جميعًا لذلك الغرض. وتلك هي العدالة الإلهية.
ما الذي يجعل المظلوم يصبر على ظالمه في دنياه؟ وما الذي يجعل الظالم يتجبر ويستمر في ظلمه ويزداد عدد ضحاياه؟ لا شك أن الأول، وهو المظلوم، يؤمن ويدرك بفطرته السليمة أن هناك يومًا قادمًا لا محالة، يقتص فيه من ظالمه، وهذا ما يجعله لا يرد الظلم بالظلم، بل يصبر ويحتسب.
أما الثاني، وهو الظالم، إن كان غير مؤمن بدين محمد – ﷺ – فلأن فطرته فسدت بفساد ابتغائه غير الإسلام دينًا، تجده لا يؤمن بيوم حساب وجزاء، وبالتالي يترتب على ذلك استمراره في ظلم الناس وأكل أموالهم وحقوقهم بالباطل، والإفساد في الأرض. أما إن كان مسلمًا ويظلم الناس في الوقت ذاته، فلأن السبب هو إيمانه الهش الضعيف المتهالك بالآخرة، وبالحساب والجزاء، مع سوء فهم لطبيعة وهدف هذه العاجلة وحياته فيها، وفهم أسوأ لطبيعة الآخرة، أعاذنا الله وإياكم من تلك النوعية الفاسدة السيئة من فهم الدنيا والآخرة.
الخلاصة
ما أروم إليه من كل ما ذكرناه آنفًا، بيان أهمية ممارسة فعل التفكر والتأمل في الآيات المسطورة بالقرآن، والآيات المنظورة في الكون والحياة. ومن تلكم الآيات المسطورة: كثرة ذكر القرآن لمصارع الأقوام المتجبرة المتكبرة، وتكرارها بصور ومشاهد متنوعة، وأن سبب ذلك لنعلم وندرك أن تلك القصص ليست للتسلية والمتعة، بل للعظة والعبرة، وأهمية الاستعداد لذلك اليوم بكل الطرق والوسائل، والذي ذهبت ضحية تكذيب حقيقته، ألوف مؤلفة من البشر من لدن قابيل حتى يوم الناس هذا، على شكل ظالمين، وضحاياهم من المظلومين. جعلنا الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.