ما بين التربية والرقابة الاجتماعية
تأخر تطور الوعي عن تطور الواقع، مشكلة عانت منها المجتمعات الإنسانية على امتداد التاريخ، حيث الاضطراب والارتباك في تنظيم ردود الأفعال الأخلاقية والتربوية الملائمة للأوضاع الجديدة، وعلى نحو عام كان هناك نوع من الركون إلى الرقابة الاجتماعية بوصفها البديل عن التربية المنزلية والمدرسية الجيدة.
في البيئات الضيقة والقرى الصغيرة تكون معرفة الناس بعضهم ببعض عميقة وشاملة، ولهذا فإن الخوف على السمعة والخوف من نقد الآخرين يكونان من أسس التربية المنزلية والاجتماعية وهذا يجعل كلمة ( العيب) هي كلمة السر لكثير من النشاط الإنساني، مع عدم الاهتمام بإنتاج المفاهيم والآليات المطلوبة لتربية فردية ناجحة وبناء ضمير حر ورقابة ذاتية حسنة، ونحن إذا تأملنا في أحوال (الريف الإسلامي) وجدنا أن مظاهر التدين كالحجاب والبعد عن بعض الكبائر مثل الزنا وشرب الخمر من الأمور التي لا تخطئها العين، لكن التدين المشاهَد هو تدين أفقي يفتقر في معظم الأحيان إلى المستند الفلسفي وإلى الصلابة المطلوبة لمواجهة تحديات الواقع وإغراءاته الكثيرة.
في المدن عموماً والمدن الكبرى خصوصاً تكون معرفة الناس بخصوصيات بعضهم بعضاً ضعيفة ويكون اعتماد كل شخص على نفسه أكبر، وهذا يجعل سطوة العرف والرقابة الاجتماعية أقل، مما يدفع الناس إلى الاعتماد على (التربية) والجهد الفردي في تنشئة أولادهم، لكن النجاح في ذلك يظل موسوماً بالقصور الذاتي المريع، ولهذا فإن من الملاحظ أن رقعة التدين والالتزام في المدن أضيق لكن الوعي بكنه التدين ومتطلباته يكون في العادة أعمق ولهذا كانت الحواضر هي حواضن الرسالات السماوية والصحوات الدينية والدعوات التجديدية..
التطور التقني المتسارع وتحول كثير من القرى خلال العقود الثلاثة الماضيةإلى ما يشبه المدن الصغرى وحاجة كثير من الأبناء للسفر من أجل الدراسة.. هذه المعطيات أدخلت كثيرا من الناس في اضطراب غير مسبوق تجاه تربية أولادهم التربية القويمة!
جهاز الهاتف الذي في أيدي الفتيان اليوم يمكنهم من الوصول إلى مواد إباحية لا تستطيع عرضها أي دار سينما في أي بلد إسلامي، ويصاحب هذا اتساع في المطالبة بالمزيد من مساحات الحرية الشخصية. هذا من جهة، ولدينا من جهة أخرى تحديات البطالة وشح فرص العمل وارتفاع معايير المعرفة والمهارة المطلوبة لشغل الوظائف الجديدة وإطلاق المبادرات الخاصة، مما يُشعل منافسات كبيرة جداً في أسواق العمل، يعجز معظم الناس عن إعداد أبنائهم للنجاح فيها مع الأسف الشديد!!
ما العمل؟
لا أعتقد أن أمامنا الكثير من الخيارات الكبرى بل لا أكاد أرى سوى خيار واحد هو تأسيس المزيد من المؤسسات التربوية التي تربي صغارنا تربية حرة رشيدة وقائمة على استيعاب حسن لتطورات الواقع وحاجات الأجيال الجديدة، وإشعال منافسة حميدة بين المؤسسات التربوية القائمة، إلى جانب ابتكار طرق جديدة في الارتقاء بأداء مؤسساتنا التعليمية. إن ضريبة التأخر في فهم ما يجري اليوم، والتأخر في الاستجابة الإيجابية له هائلة وخطيرة للغاية. والله المستعان.
هل انتفعت بهذا المحتوى؟
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.