وقد أفلح اليوم من استعلى

قال تعالى : { فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى } (طه : 64).
يأتي فرعون إلى ساحة التحدي في أزهى حُلة، منتفشاً منتفخاً، حيث سحرته هناك يواجهون سحر موسى أو هكذا اعتقد وهكذا زعموا، لا يتوقع هزيمة معنوية أو مادية من هذا الإسرائيلي الذي لا يكاد يُبين، وخاصة أن سحرته، وهم من هم يومئذ في هذا المجال، ولا يمكن لشخص مثل موسى مقارعتهم وهزيمتهم، يمنّي نفسه بهزيمة موسى عليه السلام أمام الملأ، فلا تقوم له قائمة بعدها، أو هكذا كان يتوهم الفرعون.
يدخل السحرة المهرة على فرعون، لا يدور بخلدهم أدنى شك في أنهم منصورون فائزون. ولم لا، وهم أهل الصنعة والخبرة في هذه البلاد، لا ينافسهم أحد؟. فما علموا قبل ذلك أن هناك صاحب خبرة ومهارة في السحر يفوقهم، تدفعهم رغبة شديدة في إنهاء هذا المشهد سريعاً لنيل ما وعدهم فرعون من مكافآت مجزية ومكانة مقربة، كما هي عادة الفراعنة في كل زمان ومكان، حيث شراء الذمم والنفوس بالمال والجاه والمناصب والمكانة.
في يوم الزينة، حيث الآلاف المحتشدة، يأتي السحرة منتفشين كالفرعون، ليمارسوا بعض مهاراتهم السحرية مع رجل لا يكاد يعرفونه، أو سمعوا عنه وخبرته ومهارته في مثل صناعتهم تلك، وفي ظنهم أنها دقائق وينتهي هذا المشهد الجماهيري العظيم بهزيمة موسى وكل بني إسرائيل المستضعفين، وانتصار كاسح لفرعون وآله!.
لكن ما إن بدأ العرض السحري أمام تلكم الآلاف المؤلفة التي أتت لترى عظمة سحرة فرعون، وهزيمة هذا الذي يزعم أن هناك إلهاً غير الفرعون، فزع السحرة قبل الناس، وهالهم ما رأوه حين ألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية حقيقية تسعى وتلقف ما صنعوا من خيالات وتمويهات. هنالك أيقنوا تمام اليقين أن الأمر ليس سحراً، وليس بالذي يعرفه السحرة، بل هو أمر غير معتاد في عالم السحر والشعوذة، بل إن صح التعبير، أمر غير معروف في عالم البشر كله.
يقول الفخر الرازي في تفسيره: «وقد حُكي عن السحرة أنهم عند التلقف، أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام، ليس من مقدور البشر من وجوه.
- أحدها: ظهور حركة العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة.
- وثانيها: زيادة عظمها على وجه لا يتم ذلك بالحيلة.
- وثالثها: ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة.
- ورابعها: تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة.
- وخامسها: عودها خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة.
ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة.
والله خير الماكرين
بعد أن بدأ مشهد رمي الحبال، خاف موسى للوهلة الأولى لولا أن ثبته الله { لا تخف إنك أنت الأعلى } (طه: 68 )، فظهرت النتيجة فوراً أمام ذلكم الحشد حين ألقى موسى عصاه لتتحول إلى حية تسعى وتلقف ما صنعوا، حيث خسف الله بصورة فرعون أمام الناس جميعاً عبر مشهد هزيمة السحرة أمام الناس، بل الأكثر إثارة هو مشهد السحرة وهم جميعاً دون أدنى تردد وتفكير، يشهدون أنه لا إله إلا هو، بعد أن رأوا مشهداً ليس هو بالسحر أبداً. فكان ذلك المشهد العجيب إيذاناً بعلو موسى عليه السلام ذاك اليوم، وبداية النهاية للفرعون وآله.
مشهد لم يتم التخطيط له أبداً في عالم البشر الدنيوي، بل تم في العالم السماوي العلوي، حيث المكر الإلهي حين يتجسد على أرض الواقع، لا يبقي ولا يذر ظالماً أو مجرماً على حاله. وهكذا كان الحال مع الفرعون الذي أغاظه المشهد كثيراً، وجعلته تائهاً مشوش الفكر للحظات. فكيف انقلبوا سريعاً وانهزموا وهم من هم في الصنعة، ومن بعد أن وعدهم بمكافآت ومنزلة قريبة منه، بل كيف آمنوا برب هارون وموسى دون أن يستأذنوه؟!
فاقض ما أنت قاض
لم يدر بخلد الفرعون أن مثل هذا الأمر لا يحتاج استئذانا من أحد، حتى من فرعون نفسه. فالسحرة بطبيعة الحال ومن هول المشهد، تبين لهم الحق فوراً دون أدنى ريب في نفوسهم، وتحول في الوقت ذاته هذا الفرعون في عيونهم، والذي كانوا يطلبون وده وبعض ما عنده من متع ونعيم الدنيا قبل ساعات قليلة ماضية، تحول إلى شخص لا يستحق أدنى انتباه، بل ربما الندم كان شديداً ساعتئذ عند السحرة على ما فاتهم من سني عمرهم قبل هذا المشهد، حيث الكفر والضلال الذي كانوا عليه، باتباعهم أمر الفرعون طويلاً، وما كان أمر فرعون برشيد.
أغاظ المشهد إذن فرعون وجن جنونه، فقرر على الملأ التخلص من هؤلاء (الخونة) كعادة الطغاة والمجرمين حين الانكشاف ودحض حججهم، عبر اتهام المعارضين بالخيانة والتخطيط لقلب نظام الحكم وبقية التهم المعروفة التي تتكرر في كل زمان ومكان! فقرر التخلص منهم ولكن بعد عذاب شديد { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل } (طه: 71). فماذا كان رد السحرة الذين دخلوا دين الله منذ لحظات قليلة؟
لم يخف أحد منهم، ولم يهتز لتهديدات الفرعون، فقالوا جميعاً بثقة المؤمنين المطمئنين { فاقض ما أنت قاض } (طه: 72). نعم، اصنع يا فرعون ما بدا لك، فأمرك وسلطانك زائلان لا ريب، كما هي الحياة الدنيا زائلة لا ريب فيها. وبذلك الموقف، ضرب أولئك السحرة أروع الأمثلة في الصمود والثبات أمام الطغاة، مهما تبلغ درجة ظلمهم وقهرهم للآخرين.
لب الحديث
ينتهي المشهد التاريخي { وقد أفلح اليوم من استعلى } (طه : 64)، حيث أفلح موسى عليه السلام، وقهر فرعون قولاً وفعلاً. انتهى المشهد على عكس ما خطط له فرعون وتمنّاه، فكان العلو والنصر للحق الذي يمثله موسى ومعه هارون عليهما السلام. فالناموس الإلهي لا يتغير، وهو أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، في أي زمان وأي مكان.
فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.