ما يهم المسلم

منتدى القطاع الثالث القطري .. من خيار إلى ضرورة وطنية ودولية


على امتداد ثلاثة أيام نابضة بالنقاش والتجريب، جمع “المنتدى الوطني لتمكين القطاع الثالث/غير الربحي نحو المؤشرات الدولية” في معهد الدوحة للدراسات العليا صُنّاع السياسات والباحثين وقادة المنظمات غير الربحية وشركاء التمويل، ليضعوا جميعًا خارطة طريق جديدة: قطاع ثالث مهني، شفاف، مُقاس الأثر، ومتصالح مع التحول الرقمي دون أن يفقد هويته المجتمعية.

الرسالة التي خرجت من القاعات كانت واضحة: تمكين القطاع الثالث لم يعد ترفا؛ إنه ضرورة وطنية لتحقيق رؤية قطر الوطنية 2030 وتثبيت الريادة إقليميا ودوليا.

في خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز دور القطاع الثالث (غير الربحي) في مسيرة التنمية الوطنية وتحقيق رؤية قطر الوطنية 2030، أُقيم منتدى القطاع الثالث على مدار ثلاثة أيام، في الفترة من 5 إلى 7 أكتوبر 2025، بتنظيم من هيئة تنظيم الأعمال الخيرية، وبالشراكة مع معهد الدوحة للدراسات العليا ومجلس قطر للبحوث والتطوير والابتكار.

شكل هذا الحدث منصة حيوية جمعت نخبة من الخبراء والمسؤولين والأكاديميين وممثلي المنظمات غير الحكومية لمناقشة سبل تطوير أداء هذا القطاع الحيوي ورفع كفاءته ليتوافق مع أفضل الممارسات والمعايير الدولية.

أهداف استراتيجية

تمحورت أهداف منتدى القطاع الثالث حول دعم عملية التحول في القطاع الثالث في دولة قطر ودول مجلس التعاون الخليجي، بهدف الوصول إلى أداء أكثر احترافية وتكاملا مع الرؤى الاستراتيجية للدول. وسعى منتدى القطاع الثالث إلى تحقيق ذلك من خلال عدة محاور رئيسية:

•تحليل واقع القطاع: دراسة نشأة وتطور القطاع الثالث، وفهم طبيعة علاقاته مع الحكومات، ورسم خريطة شاملة لمؤسساته وأنشطته وأدواره المجتمعية.

•استكشاف الجاهزية للتعاون: تقييم مدى استعداد مؤسسات القطاع الثالث للتعاون مع المؤسسات الحكومية في تخطيط وتنفيذ السياسات العامة.

•بناء القدرات: العمل على بناء قدرات المنظمات غير الحكومية لتمكينها من المشاركة الفعالة في صنع السياسات التعاونية.

•تطوير آليات القياس: تطوير مؤشرات دقيقة وآليات قياس فعالة تساهم في وضع مؤسسات القطاع الثالث في موقع ريادي على الخريطة الدولية.

أربعة متحدثين في ندوة، يجلسون على طاولة في قاعة مؤتمرات. المتحدث الرئيسي يتحدث في الميكروفون، بينما الآخرون يستمعون. خلفهم لافتة تحمل شعار المؤتمر.
جانب من المشاركة الدولية في منتدى القطاع الثالث

“الفعل الخيري” كضرورة وطنية وليس خيارا

أكدت الكلمات الافتتاحية أن المرحلة المقبلة تتطلب الانتقال من مبادرات حسنة النية إلى برامج مصممة وفق أدلة وقياسات. أُعيد تذكير الحضور بأن الثقة المجتمعية تُبنى عندما يرى المانح والمستفيد وصانع القرار أثرا يمكن تتبعه، وأن “الحوكمة والبيانات” صارتا جزءا من هوية العمل غير الربحي لا ملحقا تنظيميا به.

وقد شهد اليوم الأول لمنتدى القطاع الثالث افتتاحا رسميا بحضور شخصيات بارزة. وقد ألقى السيد راشد محمد النعيمي مدير إدارة التراخيص والدعم في هيئة تنظيم الأعمال الخيرية كلمة أكد فيها أن هذا المنتدى الوطني هو امتداد لسلسلة فعاليات برنامج تمكين في نسخته للعام 2025، كمنبر للتواصل والابتكار والتشارك وتبادل وجهات النظر وتحليل الصعوبات وتصميم وتطوير الحلول والخيارات، وبما يخدم مسيرة العمل الإنساني والتنموي.

كما ألقى الدكتور عبد الوهاب الأفندي رئيس معهد الدوحة للدراسات العليا كلمة أكد فيها على أن تمكين القطاع الثالث لم يعد خيارا ثانويا، بل أصبح ضرورة وطنية لتعزيز دوره في التنمية المستدامة. وأضاف أن هذا المنتدى يشكل منصة لتطوير مؤشرات دقيقة وآليات قياس فعّالة تضع مؤسساتنا في موقع ريادي على الخريطة الدولية، مشيراً إلى أن القطاع الثالث يمثل ركيزة أساسية للتكافل والابتكار وبناء رأس المال الاجتماعي.

من جانبه، أوضح السيد راشد محمد النعيمي، مدير إدارة التراخيص والدعم في هيئة تنظيم الأعمال الخيرية، أن منتدى القطاع الثالث يمثل امتدادا لبرنامج “تمكين” لعام 2025، ويعمل كمنصة للتواصل والابتكار وتبادل الخبرات لمواجهة التحديات وتطوير الحلول في العمل الإنساني والتنموي. وأعقبه الدكتور أيهب سعد عميد كلية الاقتصاد والإدارة والسياسات العامة في المعهد، الذي تناول في كلمته دور القطاع الثالث كشريك محوري في دفع عجلة التنمية وتحقيق الأثر الاجتماعي الإيجابي، وتعزيز صورة الدولة على المؤشرات الدولية.

وأضاف الدكتور سعد أن هذا المنتدى يوفر فرصة ثمينة لتبادل الخبرات وبناء استراتيجيات عملية، تجعل من مؤسساتنا أكثر كفاءة وفاعلية وقدرة على المنافسة إقليمياً وعالمياً، مؤكداً أن تمكين هذا القطاع هو استثمار في المستقبل واستجابة للتحديات المتغيرة. أهمية الشراكة البحثية في تطوير بيئة العمل للقطاع الثالث ودعم السياسات التنموية المستندة إلى الأدلة العلمية.

وتضمن جدول أعمال منتدى القطاع الثالث على مدار أيامه الثلاثة مجموعة غنية من الجلسات النقاشية وورش العمل التي تناولت قضايا جوهرية تتعلق بواقع ومستقبل القطاع غير الربحي.

واقع القطاع الثالث وتجارب خليجية

في اليوم الأول استُهلت أعمال منتدى القطاع الثالث بجلسة قدم فيها الدكتور موسى علاية العفري، الأستاذ المشارك في معهد الدوحة للدراسات العليا، عرضا تقديميا لمشروع “بناء قدرات القطاع الثالث في قطر”، وتناول ترتيب دولة قطر في مؤشر بيئة العمل الخيري العالمي لعام 2025. تلتها جلسة نقاشية أولى: تمحورت حول “التجارب الخليجية في بناء قطاع ثالث قوي”، وشارك فيها كل من الدكتور عبد الرزاق الشايجي من جامعة الكويت، والدكتور عايض بن دبسان القحطاني، الرئيس التنفيذي لمؤسسة ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية، والدكتور عبد الرب اليافعي، رئيس جمعية البهجة العمانية للأيتام.

رجل يرتدي الزي التقليدي العماني يتحدث في مؤتمر، ممسكًا بميكروفون، مع وجود لافتة تحمل اسم "معهد الدوحة للدراسات العليا" في الخلفية.
رئيس جمعية البهجة العمانية للأيتام في منتدى القطاع الثالث

وفي الجلسة النقاشية الثانية تم التركيز على “دور الأدلة في فعالية البرامج وتوصيات دولية لتحسين تصميم البرامج”، وشارك فيها خبراء دوليون مثل الدكتور عبد الرحمن ناجي من المبادرة الدولية لتقييم الأثر (3ie)، والدكتورة كاندرا كردي من المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI).

الشفافية والمساءلة في العمل الخيري

في اليوم الثاني لمنتدى القطاع الثالث، قدم الدكتور والتر شولتن من جامعة رادبود بهولندا رؤى حول “الشفافية: هل هناك ما يمكن تعلمه من مؤشر العطاء الهولندي؟”. ثم تلتها ورشة عمل أدارها الدكتور سامر أبو رمان، باحث زائر في جامعة جورج ميسون، حول “ترجمة مخرجات مؤشر بيئة العمل الخيري العالمي إلى أدوات عملية لتحسين أداء منظمات القطاع الثالث في قطر”. بالإضافة إلى ورش عمل متوازية تناولت “تقييم إمكانات تأثير البرامج من خلال نماذج” و”مدخل إلى الأدوات الرقمية المستخدمة في استطلاعات الرأي والتحديات العملية والأخلاقية في السياقات الإنسانية”.

التحول الرقمي ومستقبل القطاع

في اليوم الثالث قدم الدكتور رافائيل وصفي من جامعة ولاية بورتلاند بالولايات المتحدة الأمريكية (عبر الإنترنت) عرضا حول “التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في القطاع الثالث”. تلت ذلك جلسة تعريفية حول “مقدمة إلى مؤشر العطاء العالمي في قطر”. ثم ورشة عمل ختامية: قدمها الدكتور موسى علاية العفري حول “العلاقات البينية والإشرافية في القطاع الثالث”.

الأدلة التي تغيّر البرامج: مبادرة LIGHT في صدارة النقاش

كان محور “دور الأدلة في فاعلية البرامج” نقطة التحول في منتدى القطاع الثالث. عرض خبراء المبادرة الدولية لتقييم الأثر (3ie) والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI) كيف تضمن الأدلة الصارمة إنفاق الموارد بكفاءة في وقت تتسع فيه الاحتياجات الإنسانية وتتناقص الموارد. لم يكتف المتحدثون بالتنظير؛ بل قدموا أمثلة تطبيقية على أسئلة يجب أن تسبق أي تدخل: إلى أي مدى تحسّنت حياة المستفيدين؟ ما الآثار غير المتوقعة؟ أي تباين برامجي يحقق قيمة أكبر؟ وكيف ينعكس التوسع على الأسعار والأجور وبقية قطاعات الاقتصاد؟

شرحت الجلسة أن “الأدلة الصارمة” لا تُقصي خبرة المنفّذين، بل تكملها: الخبرة تمنح الفهم العميق للسياق ودهاليز التنفيذ، بينما تمنح الأدلة تمثيلًا أوسع للمستفيدين وربطًا بالنماذج النظرية ومعايير الدلالة الإحصائية، فتتحول القصص الملهمة إلى معرفة قابلة للتعميم والنشر العلمي. من هنا وُلدت مبادرة LIGHT بأهداف ثلاثة: رفع فاعلية الدعم الإنساني الخليجي، بناء قدرات الوصول إلى الأدلة وفهمها واستخدامها، وتعزيز الحضور البحثي الخليجي عبر شراكات نشر في مجلات رفيعة.

صورة لعرض تقديمي في مؤتمر حول فعالية البرامج، يتضمن شعار معهد بحوث السياسات الغذائية الدولي ومعهد التقييم التأثيري. النص يتحدث عن دور الأدلة في فعالية البرامج، ويشير إلى مبادرة LIGHT. المؤتمر يقام في معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، من 5 إلى 7 أكتوبر 2025.
إحدى العروض في منتدى القطاع الثالث

ورش عمل .. من المسوحات إلى النمذجة وتوليف الأدلة

تحولت قاعات منتدى القطاع الثالث في اليوم الثاني إلى مختبرٍ تطبيقي. في ورشة “المسوحات وتقييم الأثر” تعلّم المشاركون تصميم أدوات قياس لرصد التحسن في النتائج النهائية والوسيطة كالالتحاق بالمدارس والتوظيف.

أما ورشة “المحاكاة والنمذجة الاقتصادية” فأتاحت بناء سيناريوهات دقيقة: ما الأسر الأكثر هشاشة؟ كيف يتأثر هيكل الأسعار والأجور؟ وماذا يحدث عندما نوسّع نطاق التدخلات؟ واكتمل المشهد مع ورشة “المراجعات المنهجية وخرائط فجوات الأدلة” التي أرشدت المنظمات إلى أين يجب أن يذهب الاستثمار البحثي المقبل، وكيف يمكن رصد الأدلة بشكل حي ومحدّث.

قطر .. قفزة نوعية نحو مؤشر العطاء الوطني

خرج منتدى القطاع الثالث بأرقام تجذب الانتباه. فقد تحسنت سهولة تشغيل المنظمات الخيرية في قطر بصورة لافتة بين 2022 و2025، بفضل إصلاحات قانونية وتنظيمية رفعت الامتثال والشفافية، وهو ما انعكس مباشرة على ثقة المانحين وخفة الإجراءات.

وفي مؤشر العطاء العالمي تصدرت قطر عربيا وجاءت في المراتب الأولى عالميا، مع مستويات مرتفعة في “مساعدة الغريب” و”التبرع بالمال”، فيما برزت فرصة لاجتذاب المزيد من المتطوعين إلى قنواتٍ منظمة ومستدامة.

هذه النتائج لم تكن غاية بحد ذاتها، بل نقطة انطلاق لفكرة “مؤشر العطاء الوطني” الذي طُرح كحاجة استراتيجية لقطر. المؤشر المقترح سيقيس سلوكيات العطاء وأنماطه المحلية بما يعكس الهوية الثقافية والدينية والاقتصادية للبلاد، ويربط النتائج بصنع السياسات والتمويل، مع خطة بحث ميداني ومقابلات لأصحاب المصلحة ودليلٍ منهجي للنشر السنوي.

صورة بانورامية للقطاع الثالث في قطر

ذكّر منتدى القطاع الثالث بأن العمل الخيري في قطر سابق لاكتشاف النفط، ومتجذر في قيم التكافل والعادات المحلية، وأن المساجد والأوقاف لعبت أدوارا تأسيسية في التعليم والإغاثة، إلى غاية بلوغ العمل الخيري اليوم 289 منظمة تعمل في مجالات متنوعة. لكنه لم يتجاهل العقبات، فالنمو الكمي لا يُخفي تحديات نوعية وأبرزها:

  • التنافس المشتت وضعف التعاون بين المنظمات.
  • تعدد الجهات الإشرافية، مما يولّد عبئا إجرائيا.
  • تفاوت القدرات بين المنظمات الكبرى والناشئة.
  • قلة الاهتمام بمجالات حيوية مثل الصحة والبيئة.

هذه الصورة دفعت إلى نقاشات واقعية حول منصات التنسيق وبناء شبكات “مجتمع الممارسين”، حتى لا تُهدر الموارد في تكرار البرامج وتتزاحم المبادرات على نفس المستفيدين.

العلاقات البينية والإشرافية .. تشريح للواقع القطري

في نهاية منتدى القطاع الثالث استعرض د. موسى علاية العفري خلال ورشة ختامية بعنوان “العلاقات البينية والإشرافية في القطاع الثالث” مجموعة من المحاور التحليلية والتطبيقية، أبرزها التحديات الناتجة عن تعدد الجهات الإشرافية، والتداخل بين الاختصاصات، وتأثير ذلك على فعالية العمل الخيري والمؤسسي.

مؤتمر يجمع مجموعة من الحضور في قاعة حديثة، مع متحدث يقدم عرضاً على الشاشة الكبيرة. تظهر على الشاشة بيانات ورسوم بيانية، مع تفاصيل حول مشروع معين. الحضور يرتدون ملابس تقليدية وعصرية، مما يعكس تنوع المشاركين.
د. موسى علاية العفري أثناء مداخلته في منتدى القطاع الثالث بقطر

وقد قُسّمت الورشة إلى ثلاث مجموعات تفاعلية، كل منها ناقشت جانبا محددا:

  1. مجموعة خريطة الإشراف: تناولت تعقيد الإشراف المؤسسي بصريا، مع رسم خرائط تفاعلية للجهات المشرفة وأماكن التداخل.
  2. مجموعة القصة الواقعية: استعرضت حالات عملية وتحليلاً لأفكار قابلة للتحول إلى توصيات سياسية قابلة للتنفيذ.
  3. مجموعة النموذج الأفضل لقطر: ناقشت النموذج الإشرافي الأمثل بين المركزية أو التنسيق المشترك بين الجهات.

وخرجت الورشة بعدة أفكار ومسارات إصلاحية مقترحة، منها:

  • إنشاء مركز إشرافي موحد.
  • توحيد نماذج التقارير.
  • بوابة إلكترونية مركزية لتسريع الموافقات.
  • تمويل القدرات الجوهرية للمؤسسات.
  • آليات فعالة لإشراك المجتمع.
  • الاستفادة من تجارب بعض الدول وعلى رأسها النموذج السعودي الأقرب لوضع قطر

كما تم تسليط الضوء على مشكلة جوهرية وهي أن تجزؤ الإشراف ليس مجرد مسألة إدارية، بل هو أزمة ثقة وفعالية مؤسسية، تنعكس في:

  • تضارب الصلاحيات.
  • استنزاف الوقت والموارد.
  • تأخر المساعدات.
  • ضعف التنسيق وفقدان ثقة المجتمع.

وقد تم توضيح تعدد الجهات الإشرافية في قطر، مثل وزارة التنمية الاجتماعية، وزارة الأوقاف، وزارة الثقافة، وزارة الرياضة والشباب، مصرف قطر المركزي، وزارة الخارجية، وزارة العدل، وهيئة تنظيم الأعمال الخيرية، وغيرها.

شاشة عرض كبيرة تحتفل بالذكرى العاشرة لمعهد الدوحة، تعرض عنوانًا حول التعددية البيئية وتأثيرها على القطاع الثالث، بتاريخ 6 أكتوبر 2025.

وأكدت الورشة أن الحل لا يكمن في إلغاء دور هذه الجهات، بل في إعادة هيكلة العلاقة بينها، بحيث تتولى هيئة إشرافية مركزية تنظيم العلاقة وتنسيق العمليات، بينما تُحترم اختصاصات الجهات القطاعية.

في ختام الورشة، طُرحت تحديات إضافية مثل:

  • هيمنة المنظمات الكبرى على الموارد.
  • تهميش المنظمات الصغيرة وضعف دعمها المؤسسي.
  • غياب شبكات التعاون.
  • أثر ذلك على ضعف التنوع في القطاع.

“سندي”: البنية التحتية للثقة المالية

حظيت منصة “سندي” بحضور لافت كحل تنظيمي قطري لتوحيد قنوات الدفع والتبرعات. حيث أُشير إلى المنصة كأداة وطنية ناجحة لتنظيم التبرعات وتعزيز الشفافية وضبط التدفقات المالية، لكن دون أن تحل محل الحاجة لمنظومة إشرافية متكاملة ومنسقة. كما قُدمت منصة “سندي” كحل وطني لتوحيد التدفقات المالية، وتعزيز الشفافية، ومكافحة غسل الأموال.

المنصة تربط عمليات الجمع بالامتثال والرقابة وتنتج سجلا ماليا واضحا ومتكاملا مع الجهات الحكومية والمصرفية. المعنى أبعد من التقنية: إنها بنية تحتية للثقة تُسهل على المنظمات إثبات الانضباط المالي ومكافحة غسل الأموال، وتطمئن المانحين إلى أن كل ريال يبلغ غايته.

خارطة طريق لاستخدام الذكاء الاصطناعي

قدّم محور “التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي” قراءة عملية لميزة قطر: منظومة منسقة، دعم حكومي، بنية اتصال متقدمة، واستثمارات في المدن الذكية تسمح بمبادرات قطاعية واسعة. واستطاع د. رفيل وصيف (أستاذ في جامعة ولاية بورتالند الأمريكية) وضع خارطة طريق لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع الثالث، وقال أن على الرغم من أن استخدامه في الولايات المتحدة لا يزال محدودا وفي مرحلة أولية، فضلا عن أن البيانات في كثير من الأحيان تكون مشتتة وغير نظيفة. لكن رافيل أشار بأن قطر بإمكانها تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي في القطاع الثالث بحكم توفر الدعم الحكومي ووجود بنية تحتية صلبة ما يجعل قطفي وضعية خاصة ومتميزة.

وفي هذا المجال تم طرح حالات استخدام مباشرة تناسب الواقع المحلي:

  • ترجمة آلية لخدمة التعدد اللغوي
  • أنظمة تعلم تكيفي للشباب
  • نماذج تنبؤية لتحديد الأسر المعرضة للخطر قبل وقوعه
  • مراقبة صحية مدعومة بالذكاء الاصطناعي لكبار السن والأمراض المزمنة.

التقنية لا تسير بلا حوكمة

في هذا الإطار، شدد المتحدثون على تأسيس سياسات واضحة لجمع البيانات واستخدامها ومشاركتها، وتحديد المسؤوليات، وتأمين البنية الفنية، والتدريب على الخصوصية والأخلاقيات، والمراجعات الدورية، ومبدأ تقليل البيانات للضرورة. واقترحت خارطة طريق ثلاثية المراحل لتبنّي الذكاء الاصطناعي:

  • تأسيس بمعايير أخلاقية وحوكمة
  • تجريب مقنّن مصحوب بتقييم صارم للأثر
  • تعميم مدروس للنجاحات مع تدريب شامل وشراكات سياساتية.

ولأن كل تقانة تحمل مخاطرها، نوقشت احتمالات الأعطال والاختراقات والانحيازات، إلى جانب مخاطر مؤسسية كإرهاق الفرق أو انحراف المهمة أو الارتهان لمورّدٍ واحد. العلاج ليس في الخوف بل في الأسئلة الصحيحة: هل تقرّبنا التطبيقات من مهمتنا أم تشتتنا؟ هل تبني قدراتنا الداخلية أم تخلق تبعية؟ كيف نضمن عدم تعميق اللامساواة بل معالجتها؟

دروس خليجية وعالمية لبناء مؤشر وطني رصين

عرضت جلسات اليوم الثالث نماذج من السعودية والإمارات والمملكة المتحدة حول تصميم مؤشرات وطنية للعطاء والعمل المدني، وكيفية الربط بين النتائج والسياسات العامة. الدرس الأبرز كان أن المؤشر ليس جدول أرقام فحسب، بل منظومة معرفة تشترك في إنتاجها منظمات المجتمع والدولة والأكاديميا، وتتطور عاما بعد عام، فتحسن القرارات وتوجه التمويل وتبرز قصص النجاح.

رسم بياني يوضح توزيع المنظمات في القطاع الثالث في قطر حسب مجال النشاط، مع تمييز بارز للمنظمات الاجتماعية. يظهر الرسم البياني زيادة ملحوظة في عدد المنظمات مع تصاعد الأشرطة.

ما الذي تعنيه هذه الخلاصة لقطر؟

منتدى القطاع الثالث لم يكن تظاهرة فكرية عابرة، بل منصة لإطلاق عمل متدرج ومتكامل:

  • تثبيت مؤشر عطاء وطني بقياس سنوي وحوكمة واضحة تربط النتائج بالتمويل وصنع السياسات.
  • توسيع ثقافة تقييم الأثر وخرائط فجوات الأدلة قبل التوسع في أي برنامج.
  • إنشاء شبكات تعاون تقلل ازدواج الجهود وتضمن التكامل بين الكيانات الكبيرة والناشئة.
  • تعميق الشفافية المالية عبر سندي، بما يفتح بابًا أوسع للثقة المحلية والدولية.
  • اعتماد حوكمة بيانات تجعل الذكاء الاصطناعي قوة مُسخّرة ومسؤولة، لا هدفًا بذاته.
  • إبراز الهوية الثقافية للعطاء – الزكاة والأوقاف والصدقات – في تصميم المؤشر الوطني ورسائل التواصل، لتوسيع المشاركة المجتمعية والتطوع المنظم.

مخرجات وتوصيات وريادة تُبنى بالأدلة

شكل “المنتدى الوطني لتمكين القطاع الثالث/غير الربحي نحو المؤشرات الدولية” حدثا فارقا في مسيرة تطوير العمل الخيري والإنساني في دولة قطر. ومن خلال الجمع بين الخبرات المحلية والإقليمية والدولية، ونجح منتدى القطاع الثالث في تسليط الضوء على التحديات والفرص التي تواجه القطاع، ووضع خريطة طريق واضحة لمستقبل أكثر إشراقا.

ومن المتوقع أن تساهم مخرجات هذا المنتدى في تعزيز مكانة قطر كمركز رائد للعمل الإنساني والتنموي في المنطقة والعالم. فقد أثبت منتدى القطاع الثالث أن لدى قطر كل عناصر الريادة: تاريخا اجتماعيا ثريا بالعطاء، مؤسسة تنظيمية قادرة، شراكات بحثية عالمية، وبنية رقمية متقدمة. ما ينقص المشهد هو مواصلة تثبيت ثقافة الدليل وتوسيع منظومات الشفافية وتنمية مهارات القياس والتقييم داخل المنظمات. حينها فقط سيصير الحديث عن الريادة واقعًا مُقاسًا بالأرقام وقصص البشر، لا شعارا جميلا.

والرسالة الأخيرة لكل فاعل في القطاع: الأثر يبدأ عندما نعرف كيف نقيسه… ونلتزم بتحسينه كل يوم.

هذا، وخرج منتدى القطاع الثالث بمجموعة من التوصيات الهامة التي من شأنها أن تساهم في تطوير القطاع الثالث في قطر والمنطقة، ومن أبرزها:

•تعزيز الشراكات: ضرورة تعزيز الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص والقطاع الثالث لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

•بناء القدرات: أهمية الاستثمار في بناء قدرات العاملين في المنظمات غير الحكومية، وتزويدهم بالمهارات اللازمة لإدارة المشاريع وتقييم الأثر.

•التحول الرقمي: تشجيع المنظمات على تبني التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة عملياتها وزيادة تأثيرها.

•الشفافية والمساءلة: التأكيد على أهمية الشفافية والمساءلة في العمل الخيري لكسب ثقة المانحين والمجتمع.

•القياس والتقييم: تطوير أدوات ومؤشرات قياس موحدة لتقييم أداء المنظمات غير الحكومية وتأثير برامجها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى