ندوة حول كتاب “الربيع الأول” .. استقراء الأبعاد الاستراتيجية في السيرة النبوية

عقدت وحدة البحوث والدراسات في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، يوم الأربعاء 8 أكتوبر 2025، ندوة حول كتاب “الربيع الأول: قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية” للأستاذ وضاح خنفر. وشارك في الندوة كل من الدكتور محمد المصلح، العميد المساعد للشؤون الأكاديمية، والدكتور سالم الشيخي، المستشار العلمي لعميد كلية الشريعة، والدكتور عزيز البطيوي، رئيس وحدة البحوث، بالإضافة إلى مؤلف الكتاب الأستاذ وضاح خنفر، المدير العام السابق لشبكة الجزيرة الإعلامية.
وفي مستهل الندوة، قدم مدير الجلسة الدكتور عمر بوذينة عرضا تعريفيا شاملا بالكتاب ومؤلفه والمشاركين. ثم ألقى الدكتور المصلح قراءة نقدية للكتاب، مستفيدًا من خبرته في تدريس مقرر فقه السيرة بنسخته المطورة. وتلا ذلك تحليل منهجي واستراتيجي من الدكتور الشيخي، بينما ركز الدكتور بيطوي على تحليل البنية الفكرية والمنهجية للكتاب، مع إبراز جوانبه الأدبية والتحليلية. واختتم الندوة مؤلف الكتاب، الأستاذ وضاح خنفر، بكلمة عرض فيها تجربته الشخصية والفكرية في تأليف الكتاب، مبينا الدوافع والتحديات التي واجهته على الصعيد المنهجي.
مقدمة حول كتاب الربيع الأول: قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية
استهل مدير الندوة الدكتور عمر بوذينة الجلسة بالتعريف بالكتاب ومؤلفه ، وما تفرد بمنهجيته التي تجمع بين المكتسبات التراثية والتوظيف البيني للعلوم المعاصرة، مما يجعل قراءته ذكية ومستوعبة للتاريخ. وأضاف أن له أهمية كبيرة لكلية الشريعة التي تدرس مقرر “فقه السيرة”وتخطط لتقديمه باللغة الإنجليزية. وشدد على اختلاف “الربيع الأول” عن كتب السيرة المؤسسة التي ركزت بشكل أساسي على البعد التربوي والسردي، إذ يقدم قراءة تتجاوز “القراءة المتحفية”; لتؤكد أن السيرة ضرورة دينية وحضارية، وشاهدة على “سنة الله في زمن الميلاد الإسلامي” التي يمكن الاستفادة منها في مسيرة التجدد.
خارطة الكتاب
عرض الدكتور بوذينة خارطة الكتاب الصادر عام 2020 م، والذي يقع في 398 صفحة موزعة على 20 فصلا، وينقسم محتواه إلى ثلاثة محاور رئيسية:
- الأول يرسم مكانة مكة سياسيًا واقتصاديًا قبل البعثة،
- والثاني يغطّي المرحلة من بداية البعثة إلى ما قبل صلح الحديبية ويركز على تأسيس النواة الصلبة للإسلام والتخطيط الاستراتيجي،
- أما الثالث فيتناول الفترة من صلح الحديبية إلى فتح مكة وانطلاق الدعوة عالميا.
ولفت مدير الندوة الانتباه إلى فرادة الكتاب في اعتماده على مصادر متنوعة، شملت مراجع غير إسلامية كالحِمْيَرية والفارسية والبيزنطية، مع اعتماد محددات مرجعية أساسية مثل القرآن الكريم، ومقارنة أحداث السيرة مع السجلات التاريخية الأخرى، وقراءة كل حدث في سياقه العام، واتباع رؤية شمولية تقرأ توازنات الإقليم. واختتم الدكتور بوذينة بالتنويه إلى أبرز الدروس المستفادة من الكتاب حول أهمية الموضوعية في تدبير الأزمات، وإدارة التحالفات، والتدرج في التدافع، وتجنب الحسم الفوري.
قراءة نقدية على ضوء تجربة تدريس مقرر فقه السيرة
انتهج الدكتور محمد المصلح العميد المساعد للشؤون الأكاديمية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر أسلوب التحرر من ” أسر المعهودية ” تماشيا مع أسلوب الأستاذ وضاح خنفر في قراءة السيرة النبوية، وقدم قراءة نقدية للكتاب على ضوء تجربة تدريس مقرر فقه السيرة بنسخته المطورة في الكلية مشيرا إلى رئاسته للجنة تطوير مقرر “فقه السيرة” واستنادا إلى تجربته في تدريس المقرر.
وأكد على أن اقتناء الكتاب والتواصل مع المؤلف سمحا بضمه ضمن المراجع المعتمدة، مما يحرر الطلبة من الالتزام بكتاب واحد فقط.
وبين أن هذه القراءة النقدية تنطلق من سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن توظيف كتاب “الربيع الأول” في الاستجابة لتحديات المقرر؟
وركز الدكتور المصلح على استجابة كتاب “الربيع الأول” لثلاثة تحديات رئيسة هي:
- عدم التعامل مع السيرة كمشروع لإنشاء أمة جديدة ذات هوية ورسالة ودولة،
- شيوع خلل في تصور منهجية التأسي بالنبي ﷺ،
- ضعف الوعي بالسنن الإلهية في حركة السيرة النبوية.
وأوضح الدكتور المصلح أن عناصر توظيف الكتاب في مقرر فقه السيرة اشتملت على ثلاثة محاور رئيسة :
- الأول يخص مرحلة ما قبل البعثة والسياق الدولي؛ حيث أثنى الدكتور المصلح على تخصيص ربع محتوى الكتاب لرسم الخريطة الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية لمكة والعالم المحيط بها، مع إشارة مهمة إلى التحولات الدولية منذ القرن الخامس الميلادي، وقدم توصيتين للطبعة القادمة بشأن تنظيم الفصول وزيادة الإحالات المرجعية.
- وفي المحور الثاني عن البعثة وتكوين الأمة، أشار إلى الاستشهاد بتحليل الكتاب لتفسير مفاهيم كبرى في السور الأولى، خاصة مبدأ المبادرة في المنهج الاستراتيجي النبوي، مع إشادته بالربط المنهجي بين نزول سورة الإسراء وأحداث السيرة.
- أما في المحور الثالث حول سيادة دولة المدينة، فقد وجد في الكتاب رؤية فريدة لقضية السيادة، مبرزاً “إيلاف المدينة” في مقابل “إيلاف قريش”، مع وصف منهجي لتأسيسها ودفاعها وتثبيتها عبر السنوات، وتوظيف تحليل صلح الحديبية في تثبيت سيادة الدولة.
وخلص الدكتور محمد المصلح إلى أن توظيف الكتاب في المقرر يكاد يكون شاملا ومتقاطعا مع محاوره الأساسية، مع إبراز المنهج الذي يقيم موازين القوى والتفاعلات الواقعية كعامل رئيسي في الفعل السياسي النبوي، خاتما كلمته بدعوة المؤلف إلى تقديم جزء ثانٍ يكمل مسيرة الرسالة المحمدية ويغطي الفترة التي تلت فتح مكة.
قراءة وفق معايير ونماذج استراتيجية
وتحت عنوان “قراءة استراتيجية في القراءة الاستراتيجية للسيرة النبوية” جاءت مشاركة الدكتور سالم الشيخي المستشار العلمي لعميد كلية الشريعة في الندوة حيث قام بتحليل منهجي يعتمد على مفهوم “صناعة النماذج” .
وطرح الدكتور الشيخي سؤالا محوريا: هل استطاع المؤلف قراءة السيرة قراءة استراتيجية حقيقية وفق معايير النماذج الاستراتيجية؟ وكانت إجابته أن الكتاب يمثل بالفعل نموذجاً حقيقياً كاملاً وحائزاً على كافة شروط التحليل الاستراتيجي. ولإثبات ذلك، عرض ثلاثة نماذج تحليلية:
- النموذج الأول: معيار تقييم الدراسات التاريخية الاستراتيجية: ويشمل ستة مكونات رئيسة التزم بها الكتاب:
- تحديد الإطار الزماني والمكاني: خصص الكتاب أكثر من ثلثه لهذا الجانب.
- تحديد الإطار الفكري والمبادئ الضابطة: حدد الكتاب 7 ملامح فكرية و7 مبادئ حاكمة للفعل الاستراتيجي.
- توصيف الواقع الشامل: خصص أكثر من 20% من حجمه لتوصيف الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني.
- تحليل القوى الأساسية المؤثرة: مع أمثلة دقيقة كتحليل تحالف بني قينقاع مع الخزرج.
- تحديد أدوات صناعة الفعل الاستراتيجي: في المجالات السياسية والاجتماعية والإعلامية.
- التفريق بين الفعل الاستراتيجي والتكتيكي: وهو العنصر الأهم، حيث قدم الكتاب تحليلاً عميقاً يجيب على أسئلة لماذا وقع الحدث؟و كيف غير المعادلة؟
- النموذج الثاني: اختصار الكتاب في جدول استراتيجي شامل: أوضح أنه يمكن تلخيص الكتاب في جدول يضم سبع مراحل استراتيجية للسيرة، مع تحليل خمسة عوامل لكل مرحلة (المدخلات، الأهداف، الأدوات، مؤشرات النجاح، المخرجات).
- النموذج الثالث: النموذج الديناميكي المنتج: وصفه بأنه الأكثر أهمية، وهو نموذج يوضح ضرورة الانضباط في المراحل لتحقيق النجاح، إذ إن الالتزام بالمكونات المحددة يقود إلى النتيجة المرغوبة، مما يجعله قابلا للتطبيق وتحقيق النتائج.

قراءة في النموذج التفسيري والفقه المنهجي
وصف الدكتور عزيز البطيوي رئيس وحدة البحوث والدراسات في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، الكتاب بأنه عمل نوعي يقدم قراءة نسقية وتركيبية للسيرة، انطلق فيه المؤلف من نموذج تفسيري مناسب لسياق العصر، مجددا التأكيد على أهمية تجاوز القراءات المشوهة التي تعاني منها كتب السيرة المعاصرة التي تفتقر إلى التفاعل مع واقع العصر.
وعالج الدكتور البطيوي خلال كلمته بنية الكتاب من منظور “العتبات النصية” :
- عتبة العنوان: رأى أن الربيع الأول يحقق شرطي الإيحاء والإغراء كإشارة ذكية للانقلاب الاستراتيجي، بينما يحقق الشطر الثاني قراءة سياسية واستراتيجية شرطي الوصف والتعيين.
- عتبة الاستهلال والختام: أثنى الدكتور بيطيوي على الاستهلال غير التقليدي بحدث فتح مكة، الذي يكسر التوقع الزمني لدى القارئ، وأبرز الفصل الأخير الذي ينقل القارئ إلى القرن الحادي والعشرين. داعياً إلى قراءة تثويرية للسيرة.
وأشار إلى أن المؤلف يقترح منهجين لفهم السيرة: فهم السياقات بوصفها ضرورية للمعرفة، واستحضار مقام النبوة، وخصوصا تصرف النبي ﷺ بالإمامة الذي يميزه عن شخصيات تاريخية أخرى، من خلال إعلاء سلطة الأمة وتقاسم الثروة.
كما ناقش التوازن بين الوحي والرؤية الاستراتيجية، مؤكدا على وجود ضبط دقيق بين الوحي كمنطلق مطلق، والفعل البشري الاستراتيجي النسبي، وبأن النبي ﷺ كان يتحرك برؤية استراتيجية ضمن إطار فهم سنن الله في الاجتماع والعمران.
وخلص الدكتور عزيز البطيوي إلى أن القراءة السياسية والاستراتيجية للسيرة ليست الوحيدة، لكنها الأنسب للسياق المعاصر لمعالجة الخلل في العقل المسلم في قراءة الواقع ورسم المستقبل، داعيا الباحثين إلى تجربة هذا النموذج التفسيري وتطبيقه على الفترة الممتدة من فتح مكة حتى وفاة النبي ﷺ وربطه بمشاريع فكرية أخرى مثل مشروع الفيلسوف طه عبدالرحمن في السيرة النبوية.
رحلة التأليف والرؤية المستقبلية
في ختام الندوة، ألقى مؤلف كتاب “الربيع الأول: قراءة سياسية واستراتيجية في السيرة النبوية” الأستاذ وضاح خنفر كلمة أوضح فيها أن فكرة الكتاب نتاج رحلة شخصية مع السيرة النبوية استمرت 20 عاما، دون خلالها ملاحظاته وانطباعاته بدافع الحب لشخص النبي ﷺ والرغبة في الاستفادة منها في عمله الإعلامي.
وأشار إلى أن ارتباطه بالسيرة بدأ منذ طفولته في فلسطين، حيث نشأ على قراءة كتب السيرة في مكتبة والده وبتحفيز منه، رحمه الله، مما شكل لديه مخزونا معرفيا ثم تطور هذا الارتباط ليصبح تجربة فكرية ونفسية وروحية عميقة، و جاءت فكرة الكتاب بعد إلحاح من المتابعين لسلسلة مرئية قدمها على الإنترنت، والتي كانت محاولة أولية لقراءة السيرة برؤية استراتيجية.
وأكد الاستاذ خنفر أن واجه تحديا أخلاقيا ومنهجيا كبيرا يتمثل في الخوف من الافتراء على النبي ﷺ بتأويل قد لا يكون مقصودا مما دفعه إلى الغوص في المنهج والبحث عن ضوابط دقيقة للتأويل، موضحا أن المعلومة من دون سياقها قد تكون مضللة، وهو ما استفاد منه في عمله الإعلامي ونقله لدراسة السيرة، ثم انتقل إلى مرحلة تدقيق المصادر والاعتماد بشكل أساسي على أربعة مصادر أساسية لكبار مدوني السيرة النبوية هم: الإمام الزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، والإمام الواقدي، وذلك بسبب دقتهم المنهجية.
وأشاد الأستاذ خنفر بتمييز علماء الحديث بين ضعف الراوي في الحديث وقبوله في المغازي والسير عند الواقدي. وتوقف عند الجدل التاريخي حول شخصية الواقدي، مبينا أنه تعلم من خلاله درسا منهجيا بالغ الأهمية، وهو التفريق بين منهج المحدثين الصارم الذي يقتضي الضبط والعدالة والذي بسببه ضعف الواقدي في الحديث، وبين منهج المؤرخين الذي يتطلب رؤية شمولية للأحداث من زوايا مختلفة وفي هذا التخصص يعتبر الواقدي حجة في السير والمغازي.
نماذج عملية في التحقيق المنهجي
استعرض الأستاذ خنفر ثلاثة أمثلة عملية توضح الجهد البحثي الكامن خلف تأليف الكتاب :
- حادثة بني قريظة: شكك في رواية قتل 600-700 رجل من بني قريظة، لتعارضها مع سياق وثيقة المدينة التي تنص على المسؤولية الفردية. وبعد البحث التمحيص، وجد أن المصادر الأولى (البخاري ومسلم والزهري) لم تذكر رقما، وأن أول ذكر لعدد كبير كان عند ابن إسحاق في القرن الثاني. ثم عثر في كتاب “الأموال” لأبي عبيد على رواية موثوقة تحدد عدد من قُتلوا من المقاتلة بأربعين رجلاً، وهو الرقم الأكثر انسجاماً مع السياق ومع المصادر الأولى.
- إشكالية ضبط التواريخ: واجه المؤلف معضلة تحويل التواريخ الهجرية إلى ميلادية بسبب “أشهر النسيء” التي كانت العرب تتبعها قبل إلغائها في حجة الوداع. وهذا الخلل كان يؤدي إلى عدم تطابق أحداث السيرة مع ما هو موثق في الأرشيف البيزنطي والفارسي. ووجد الأستاذ خنفر الحل في أبحاث الباحث التركي محمد أبيدن (Mehmet Apaydın)، الذي أعاد بناء تقويم السيرة كاملاً في كتاب “كرونولوجيا السيرة”، وهو المنهج الذي اعتمده لضمان دقة التزامن التاريخي.
- التحقق من أعداد المقاتلين في معركة مؤتة: شكك المؤلف في الأرقام المبالغ فيها (100-200 ألف) للجيش الروماني. بالاعتماد على الدراسات التاريخية للجيش البيزنطي ووثائق الأرشيف البيزنطي، قدر العدد بأنه لم يتجاوز 8-10 آلاف مقاتل ومعظمهم من حلفاء البيزنطيين من العرب وهذا مايتناسب مع السياق التاريخي.
المشروع المستقبلي
وأعلن الأستاذ خنفر عن مشروع فكري مستقبلي لبناء فلسفة سياسية إسلامية تقوم على إعادة استكشاف مفهوم الأمة كمصطلح استراتيجي وجيوسياسي، مؤكدا أن الأمة التي أسسها النبي ﷺ كانت انقلابا استراتيجيا ساهم في غضون ست سنوات بعد وفاته من تغيير موازين القوى بين الفرس والروم.
وفرق الأستاذ خنفر بين تيارين في التاريخ الإسلامي، تيار الوحدة الذي يقود إلى القوة والازدهار، وتيار التفكك الذي يؤدي إلى الضعف والاحتلال، داعيا إلى فكرة التكامل بين دول العالم الإسلامي.
وفي ختام كلمته، ميز الأستاذ وضاح خنفر بين فكرتي “الفتح” و”الاحتلال” موضحا أن الفتح يحرر إرادة الإنسان ويفتح الباب أمامه للاختيار، أما الاحتلال فيصادر الإرادة ويفرض نماذج عنيفة تؤدي إلى الإبادة، كما هو الحال في فلسطين اليوم.
خاتمة
تؤكد هذه الندوة على القيمة الفكرية المتجددة لكتاب “الربيع الأول” الذي يقدم قراءة معاصرة للسيرة النبوية تواكب حاجات العقل المسلم مع التزام دقيق بالمنهجية العلمية والأدلة التاريخية، مما يفتح آفاقا بحثية جديدة في دراسة السيرة النبوية.