مهارات المستقبل بروح هويتنا .. التوازن بين متطلبات العصر وجذورنا


يقف كل أب وأم اليوم أمام سؤالين كبيرين ومقلقين. الأول يأتيهم من الخارج، من عالم يموج بالتغيرات، يهمس في آذانهم بكلمات مثل “البرمجة”، “الذكاء الاصطناعي“، “التفكير النقدي“، مؤكدًا أن مستقبل أبنائهم مرهون بإتقان هذه الأدوات. أما السؤال الثاني، فيأتيهم من الداخل، من قلوبهم، وهم يرون أبناءهم يقضون ساعات أمام الشاشات، ينهلون من محتوى عالمي قد يسلخهم يومًا بعد يوم عن لغتهم، وقيمهم، وجذورهم الروحية.
هذه الحيرة ليست حيرة فردية، بل هي معضلة مجتمعاتنا بأكملها. كيف نعد أجيالنا لعالم متغير، دون أن يفقدوا أنفسهم؟ كيف نمنحهم أجنحة ليحلقوا، وجذورًا قوية تشدهم إلى أرضهم وهويتهم؟
الحل لا يكمن في الاختيار بين طرفي المعادلة. الطريق الثالث، طريق الحكمة والتوازن، يكمن في “توطين” هذه المهارات، أي صياغتها وتقديمها وتطبيقها بروح هويتنا وقيمنا. أن نأخذ الأداة، ونستخدمها نحن لصناعة ما يشبهنا.
قبل أن نتحدث عن كيفية الموازنة، يجب أن نقر بحقيقة لا مفر منها: اكتساب مهارات المستقبل لم يعد خيارًا، بل ضرورة بقاء. إن إتقان لغات البرمجة اليوم لا يقل أهمية عن إتقان اللغات المحكية في الماضي. وهذه المهارات ليست مجرد أدوات للحصول على وظيفة، بل هي وسائل لتمكين شبابنا من الإبداع، وحل مشكلات مجتمعاتهم، والمساهمة في الحضارة الإنسانية.
المشكلة لا تكمن في المهارة ذاتها، بل في “الغلاف الثقافي” الذي تأتي به غالبًا. فالمهارات ليست أدوات محايدة، بل تحمل في طياتها قيم البيئات التي نشأت فيها.
ولا يقتصر الخطر على الغزو القيمي فحسب، بل يكمن في طبيعة هذه التقنيات نفسها إن لم تُحكم بضوابط أخلاقية واعية. علينا أن نكون متنبهين لمخاطر حديثة مثل “تحيز الخوارزميات“ التي قد تكرس التمييز، وقضايا “الخصوصية“ وأمن البيانات، وتحديات “الملكية الفكرية“، وظهور “الغش الأكاديمي المعزز بالذكاء الاصطناعي“، ناهيك عن “التأثيرات النفسية للإفراط في استخدام الشاشات“، وقضية “الاستدامة الرقمية“ المتعلقة بالأثر البيئي للأجهزة والطاقة. التحدي هو أن نأخذ الهدية ونفككها، فنحتفظ بما ينفعنا ونهذب ما يضرنا بمرجعيتنا الأخلاقية.
3 خطوات تعيد تصميم التعليم
إن تحقيق هذا التوازن يتطلب جهدًا واعيًا ومقصودًا. وهذا لا يتم بالشعارات، بل بإعادة تصميم طريقة التعليم نفسها:
- برمجةٌ ذات هدف: بدلًا من تعليم البرمجة كمهارة تقنية مجردة، لنوجهها نحو خدمة المجتمع. ومن الأمثلة التطبيقية على ذلك: تصميم تطبيق لخدمة المرضى وكبار السن في الحي لتنسيق الزيارات والمساعدة، أو بناء لوحة بيانات تفاعلية للجمعيات الخيرية تُظهر فرص التطوع المتاحة أسبوعيًا، أو تطوير أداة ذكاء اصطناعي تساعد على تعليم اللغة العربية أو تحفيظ القرآن الكريم (مع وضع ضوابط فقهية صارمة وضمانات لأمن الخصوصية).
- تفكيرٌ نقديٌ ببصيرة: في ثقافتنا، لدينا مفهوم “التبيّن” القرآني. يجب أن نعلّم أبناءنا التفكير النقدي كأداة للوصول إلى اليقين، لا كأداة للتشكيك العبثي.
- العمل الجماعي بروح الشورى: يجب أن نربي أبناءنا على أن نجاح الفريق هو نجاح للجميع، تطبيقًا لمبدأ “الشورى” و”التعاون”.
تحويل التقاليد إلى ابتكارات عصرية
لنعزز هذه النقطة بتحويلها من فكرة نظرية إلى خطوات عملية في سياقنا المحلي، فيمكننا إضافة عدسة خليجية مُسماة، تترجم أعرافنا الأصيلة إلى ابتكارات عصرية:
- “الفزعة” كنموذج للمساعدة الجماعية السريعة، يمكن أن تولد “هاكاثون الفزعة”، وهو تحدٍ تقني مكثف لعدة أيام يجمع المبرمجين لحل مشكلة مجتمعية طارئة بشكل تطوعي وسريع.
- “الوقف” كأداة للاستدامة، يمكن أن يتطور إلى “الوقف الرقمي” الذي يدعم إنشاء محتوى عربي مفتوح المصدر عالي الجودة، أو يمول خوادم المشاريع التقنية غير الربحية.
- “المجلس” كفضاء للتواصل والشورى، يمكن أن يلهم إنشاء “مجالس شبابية تقنية” تجمع الطلاب والمطورين مع مسؤولي البلديات والشركات لطرح التحديات واقتراح الحلول.
- “الواجب الاجتماعي” في الأفراح والعزاء كفرصة للابتكار: إن تجمعاتنا الكبيرة في مناسبات الزواج أو العزاء هي من أقوى مظاهر “العصبية” المجتمعية الحميدة. بدلاً من النظر إليها كعبء لوجستي، يمكن للمبتكرين الشباب استخدام مهاراتهم لتطويرها.
فيزيائياً، يمكن تصميم قاعات أكثر استدامة وأقل تكلفة. ورقمياً، يمكن إنشاء منصات خاصة ومحترمة لتسهيل تقديم واجب العزاء لمن هم بعيدون، أو تنظيم الدعم للأسرة بشكل يحفظ كرامتهم، أو حتى مشاركة الفرح مع الأقارب في الخارج بطرق مبتكرة. هذا هو تحويل المهارة التقنية إلى أداة لتقوية النسيج الاجتماعي.
إن الهدف النهائي لا ينبغي أن يتوقف عند “حماية الهوية”. الخطوة التالية هي الانتقال من “رد الفعل” إلى “الفعل”، ومن “التوازن” إلى “الريادة”. فالعالم اليوم، الذي يعاني من أزمات الرأسمالية الشرسة، قد يكون متعطشًا لنموذجنا الذي يوازن بين النجاح المادي والسكينة الروحية. جيلنا الجديد ليس مكلفًا فقط بتعلم المهارات، بل بتصدير نموذج قيمي جديد للعالم، مغلف بهذه المهارات.
هذه المهمة ليست مسؤولية فردية، بل هي مسؤولية تكاملية تتطلب تضافر الجهود:
- إلى صانع القرار في التعليم: لا تكتفوا بشراء المناهج الجاهزة، بل استثمروا في فرق محلية لتصميم مناهجنا الخاصة التي تنبع من بيئتنا وتخدم رؤيتنا.
- إلى صاحب الشركة ورائد الأعمال: اجعل “الأثر المجتمعي” مؤشر أداء رئيسي (KPI) تمامًا مثل “الربح”.
- إلى الإعلامي والمؤثر: سلطوا الضوء على النماذج الشبابية التي نجحت في هذا التوازن. فقصصهم الملهمة هي أفضل مادة تعليمية لإيقاد الحماس في نفوس الآخرين.