ما يهم المسلم

الذكاء الاصطناعي وتحدي الضمير الأخلاقي


روبوت ذو ملامح بشرية مع وجه مغطى بأنماط رقمية زرقاء، يتفاعل مع جدار مكون من أرقام حمراء متدفقة. الخلفية تعكس تكنولوجيا متقدمة، مما يعكس موضوع الذكاء الاصطناعي والابتكار.

لا يمكن لأي مجتمع أن يستمر أو يحقق توازنه الداخلي دون منظومة قيم توجه سلوك أفراده وتضبط تعاملاتهم، فالقيم ليست مجرد شعارات أخلاقية، بل هي البوصلة الحضارية التي تحدد اتجاه الأمة، وتضمن أن يبقى العلم في خدمة الإنسان لا العكس، وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد أصبح أحد أهم إنجازات العقل البشري في القرن الحادي والعشرين، فإن السؤال الجوهري اليوم هو: كيف يمكن لهذه التقنية أن تعمل في إطار منظومة أخلاقية تحفظ الكرامة الإنسانية وتمنع تحوّل الآلة إلى أداة للاستغلال أو السيطرة ؟

القيم والأخلاق كمعيار إنساني

القيم هي التي تحدد ” ما ينبغي أن يكون “، والأخلاقيات هي التي تضبط ” كيف يجب أن نتصرف “، ومن هنا فإن العلاقة بين القيم والذكاء الاصطناعي علاقة تأسيسية: فالتقنية دون أخلاق قد تتحول إلى وحش جامح، بينما التقنية المقترنة بالمسؤولية الأخلاقية تصبح أداة للارتقاء بالإنسانية، فحين تُستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات الطلاب لتخصيص أساليب التعليم ينبغي أن تُبنى على قيم العدالة والمساواة لا على التحيّز، كما يجب أن تُوظَّف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية لخدمة المريض لا لاستغلال بياناته الشخصية.

ولقد أتاح الذكاء الاصطناعي أدوات مذهلة في التواصل ونشر المعرفة، لكنه في الوقت ذاته فتح المجال للتلاعب بالعقول ونشر الأخبار الزائفة وصناعة الوهم،

وهنا يبرز البعد التربوي: تربية الضمير الرقمي الذي يمنع الإنسان من استغلال هذه الأدوات في الكذب أو التحريض أو التشويه، ويمكن للمعلمين مثلاً أن يدرّبوا الطلبة على التحقق من المصدر قبل مشاركة أي محتوى، وأن يُدرجوا في المناهج أنشطة نقدية لتحليل الأخبار الرقمية، حتى يتعلم المتعلم أن الكلمة في الفضاء الرقمي لا تقل خطراً عن السيف في ساحة القتال، وقد قال الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (سورة ق:18).

كما أن التعليم والمعرفة لا يمكن أن يستقرا إلا على أساس من الصدق والأمانة، غير أن الذكاء الاصطناعي أدخل تحديات غير مسبوقة: النصوص المولدة بلا مصادر واضحة، البحوث المكتوبة آلياً، انتهاك حقوق الملكية الفكرية، وهنا تطرح إشكالية السرقة الفكرية المقنّعة التي تهدد مصداقية العلم ذاته، ولذلك يصبح من الواجب تعزيز ثقافة ” الأمانة العلمية الرقمية “، وتدريس الطلبة كيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على روح الاجتهاد والبحث الأصيل.

الفلسفة والفن والعدالة بين الإبداع والتزييف

قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج نصوص فلسفية أو أعمال فنية تفتح أفقاً جديداً، لكنها تثير سؤالاً فلسفياً عميقاً: هل يمكن للآلة أن تُبدع حقاً ؟ أم أن الإبداع جوهره الحرية والذاتية الإنسانية ؟، كذلك تطرح إشكالية حقوق الملكية: هل تُنسب للآلة ؟ أم للإنسان المبرمج ؟ أم للبيانات التي استُخدمت في تدريبها ؟، لقد أصبحنا نرى البرامج القادرة على تأليف القصائد ورسم اللوحات وتصميم الموسيقى، لكنها تفعل ذلك من خلال تحليل ملايين الأعمال السابقة، لا من تجربة وجدانية أصيلة، وهنا يبرز دور المؤسسات الأكاديمية والثقافية في تربية الحس الجمالي والأخلاقي لدى المبدعين، وتعليمهم كيف يستخدمون هذه الأدوات كمرايا تُعمّق الخيال الإنساني لا كمصانع تنتج بدائل عنه، هذه التساؤلات تضعنا اليوم أمام ضرورة صياغة أخلاقيات الإبداع الرقمي التي تحمي الفنان والباحث والمجتمع من الفوضى المعرفية والقانونية.

حقيقة إن الذكاء الاصطناعي يعمّق الفجوة بين من يملك التقنية ومن يُحرم منها، فالمجتمعات الغنية ستستفيد من المدن الذكية والخدمات المؤتمتة، بينما تعاني المجتمعات الفقيرة من البطالة والحرمان، وهنا تظهر قضية عدالة التوزيع: كيف نضمن أن تكون مكاسب التقنية مشاعة بين البشر جميعاً لا حكراً على النخب والشركات الكبرى ؟، إن الأخلاق في هذا السياق ليست مجرد توصية، بل شرط لتحقيق الاستقرار المجتمعي ومنع الانهيارات الاقتصادية والأمنية.

بين الخوف والأمل، هل تتفوق الآلة ؟

من أكبر المخاوف في هذا العصر: أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي وعي الإنسان، فيصبح هو الموجّه والمقرر، هذا السيناريو – وإن بدا خيالياً – يفرض علينا أن نضع نبراساً أخلاقياً يضمن بقاء الإنسان في مركز التقنية، فالآلة مهما بلغت قوتها يجب أن تظل وسيلة، والإنسان هو الغاية،  ولهذا ينبغي أن تتضمن المناهج التعليمية في المدارس والجامعات موادّ تُعنى بـالفلسفة الأخلاقية للذكاء الاصطناعي، تُدرّب الناشئة على التفكير النقدي وتمييز حدود القرار الإنساني عن القرار الآلي، حتى لا تتحوّل الأجيال القادمة إلى مجرّد منفذين لما تقترحه الخوارزميات، كما يمكن للمؤسسات التقنية أن تُنشئ لجان إشراف أخلاقي تُراجع استخدامات الذكاء الاصطناعي في الأمن والإعلام والطب والاقتصاد، لضمان ألا تتجاوز التقنية قيم العدالة والكرامة الإنسانية…

اقرأ أيضا

الدين في زمن الذكاء الاصطناعي
تقنيات الذكاء الاصطناعي والحديث النبوي

ولقد أدركت المؤسسات الدولية خطورة هذه التحديات، فجاءت ” توصية اليونسكو لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي ” (2021) لتؤكد على مبادئ: الشفافية والعدالة والكرامة الإنسانية والإشراف البشري…،ويمكن ترجمة هذه المبادئ عملياً عبر مبادرات مثل: إلزام الشركات التقنية بالإفصاح عن آليات اتخاذ القرار في أنظمتها الذكية، وتدريب المعلمين والمبرمجين على إدماج التفكير الأخلاقي في تصميم الخوارزميات، وإنشاء مراكز بحوث وطنية تُراقب أثر الذكاء الاصطناعي على القيم المجتمعية وسلامة النسيج الإنساني.

إن المطلوب اليوم ليس فقط تطوير تقنيات متقدمة، بل بناء وعي أخلاقي تربوي عالمي يجعل من الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز إنسانيتنا لا لطمسها، فالمجتمع بلا قيم يتفكك، والعلم بلا أخلاق يتحول إلى عبء، أما العلم المسلح بالقيم فهو سبيل النهضة الإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى