مؤتمر القرآن والمعرفة الإنسانية .. نحو تأسيس معرفة إنسانية راشدة

في خطوة رائدة لتأصيل العلاقة بين الوحي الإلهي والمعرفة الإنسانية، عقدت في العاصمة القطرية الدوحة فعاليات المؤتمر العالمي السنوي الأول “القرآن والمعرفة الإنسانية” و”ملتقى كتاب الأمة الأول ، تحت شعار { يهدي للتي هي أقوم} “، وقد نظمت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المؤتمر بالتعاون مع مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر، خلال الفترة 1 – 2 أكتوبر 2025 م مستهدفة إعادة مركزية القرآن الكريم في توجيه الخطاب المعرفي الإنساني المعاصر، وبناء جسور تواصل راسخة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية.
استند المؤتمر إلى فكرة أن القرآن الكريم، بوصفه كتاب هداية، يقدم رؤية شاملة وتوجيهات تامة في كافة مجالات الحياة، من التربية والنفس والاجتماع إلى الاقتصاد والسياسة. وعلى الرغم من غنى النصوص القرآنية بالأبعاد المعرفية، إلا أنها لا تحظى بالاهتمام الكافي في المؤسسات التعليمية المعاصرة. لذا، سعى المؤتمر إلى استقطاب الباحثين من مختلف التخصصات بهدف تثوير المعاني القرآنية ونظمها في واقع المعرفة الإنسانية المعاصر.
تمحورت أهداف المؤتمر حول إعادة بناء الصلة بين الباحثين في العلوم الاجتماعية والوحي، وتشجيع التفاعل المنهجي بين الباحثين الشرعيين والمعارف الإنسانية، وتفعيل الدور المعرفي لوزارة الأوقاف في الأوساط الأكاديمية والبحثية.
افتتاح مؤتمر “القرآن والمعرفة الإنسانية”
شهد اليوم الأول انطلاق أعمال المؤتمر بحفل افتتاح رسمي حضره عدد من كبار الشخصيات، من بينهم الشيخ الدكتور خالد بن محمد بن غانم آل ثاني وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والدكتور إبراهيم بن صالح النعيمي وكيل وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي ، والدكتور عمر بن محمد الأنصاري رئيس جامعة قطر وعدد من الشخصيات العلمية والمسؤولين.
في كلمته الافتتاحية ، أشار الشيخ الدكتور أحمد بن محمد بن غانم آل ثاني، مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوازة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إلى أن المؤتمر يسهم في استئناف الدور العظيم الذي كانت تضطلع به المعرفة القرآنية في ترشيد العلوم. وأكد بدوره الدكتور عمر بن محمد الأنصاري رئيس جامعة قطر، على أهمية المؤتمر في بناء وعي معرفي مستنير بهداية القرآن، الذي يمثل نبراسا قيميا يوطن المعارف الإنسانية بما يتناسب مع الهوية الإسلامية والعربية فيما أوضح الدكتور بدران بن لحسن، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر، أن المؤتمر يندرج ضمن إطار التجسير المعرفي بين العلوم المختلفة والتوطين الذي يسعى لمواءمة النظريات المعاصرة مع الهوية الدينية والثقافية.
القرآن والمعرفة النفسية
بعد الجلسة الافتتاحية انطلقت أولى الجلسات العلمية لمؤتمر “القرآن والمعرفة الإنسانية” في جامعة قطر برئاسة الدكتور محمد راشد المري، تناولت الجلسة الأسس المعرفية والنفسية في ضوء القرآن.
الدكتور خالد بريه قدم بحثا بعنوان التلقي القرآني والمعرفة النفسية: مقاربة في ضوء علم النفس الإيجابي ، أوضح فيه أن القرآن يقدم نموذجا متكاملا للسمو النفسي يتقاطع مع أحدث اتجاهات علم النفس الإيجابي في مفاهيم مثل الصمود النفسي والتفاؤل، لكنه يتميز بعمقه الإيماني الذي يمنح الإنسان استقرارا نفسيا متجذرا.
الأستاذ الدكتور وائل خليل الكردي طرح في بحثه رؤية قرآنية في تأسيس مفهوم الوعي اللاإرادي مقابل اللاوعي الفرويدي أطروحة بديلة لمفهوم اللاوعي عند فرويد، وهي الوعي اللاإرادي. ويرى أن كل الحالات الإدراكية للإنسان هي حالات وعي متصلة بالله، وليست نابعة من طاقة داخلية غريزية تحتاج إلى تحرير.
اقرأ أيضا
الدكتورة فاطمة سعد النعيمي تناولت في بحثها المعرفة النفسية في القرآن الكريم: بين التأصيل والتطبيق الدور الذي يلعبه القرآن في تقديم رؤية شاملة للإنسان تجمع بين الروح والجسد. وأبرزت أن القرآن يقدم معرفة نفسية متكاملة تقوم على مفاهيم مثل الطمأنينة والصبر والتوازن، مما يسهم في تحقيق السكينة الفردية والاجتماعية.
الجلسة الثانية
ركزت الجلسة الثانية برئاسة الأستاذ عبد العزيز الخال، على الجوانب العلاجية والمرضية للنفس حيث قدم الأستاذ الدكتور ربيع لعور قدم دراسة بعنوان سيكولوجية تضخم الأنا وانعكاساتها المرضية في الفرد والمجتمع . كشف البحث عن عناية القرآن بأسباب هذا المرض، وقدم مقارنة بين علاجاته التي تستصحب الدين والأخلاق، وبين علم النفس الذي ينعزل عنها.

واستعرض الأستاذ الدكتور علي إبراهيم عجين نظرية العلاج بالمعنى في الخطاب القرآني من خلال قصة أصحاب الأخدود. أوضح أن إيمان أصحاب الأخدود بالله كان المعنى الأسمى الذي جعلهم يتحملون المعاناة، مما يؤصل لنظرية العلاج بالمعنى من منظور إسلامي.
الورقة الأخيرة خلال هذه الجلسة ألقتها الدكتورة بشرى الملحم بعنوان عناية القرآن بالصحة النفسية من خلال قصة صاحب الجنتين.
بحوث تطبيقية متنوعة
اختتمت جلسات اليوم الأول برئاسة الأستاذة سارة ناصر، ببحوث تطبيقية متنوعة. حيث طرح الدكتور إبراهيم بوزيداني مشروعا لتطوير مصفوفة التصنيف القرآني لسلوك الإنسان، هدفت دراسته إلى تصنيف السلوك البشري ضمن خمسة سياقات عامة ذكرها القرآن، وهي: العضوي، والموضعي (داخلي/خارجي، والنسقي (الاجتماعي، والجغرافي، والزماني.
ثم تناول الدكتور فارس بن سلين موضوع الإسعافات النفسية الأولية في القرآن الكريم، مقدما رؤية تكاملية تسعى لسد الفجوة المعرفية في المنهجيات الحديثة وتقديم نموذج يتسم بالشمولية والملاءمة للمجتمعات الإسلامية.
بينما طرح الدكتور أمين عويسي ورقة بعنوان: (سنة التدافع والدفع اللطيف، تحليل مقارن في سياق الاقتصاد السلوكي، عرض فيه تحليلا مقارنا مبتكرا بين مفهوم سنة التدافع القرآنية ونظرية الدفع اللطيف (Nudge Theory ) في الاقتصاد السلوكي، واقترح دمج الرؤيتين لتصميم سياسات اقتصادية تحترم القيم الإسلامية وتعزز الشفافية والرقابة الذاتية.
استكشاف الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية في القرآن
تواصلت أعمال مؤتمر “القرآن والمعرفة الإنسانية” في يومه الثاني، حيث أكد الباحثون على أهمية بناء جسور التواصل بين القرآن والمعرفة الإنسانية للوصول إلى معرفة إنسانية راشدة، وانتقل التركيز إلى محاور المعرفة الاجتماعية والاقتصادية.
المجتمع والعلاقات الأسرية في القرآن الكريم
وعقدت الجلسة الرابعة برئاسة الدكتورة لطيفة الكعبي، تناولت الجلسة أسس بناء المجتمع والعلاقات الأسرية. قدم الأستاذ الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي بحثا عن التأسيس المجتمعي للبشرية في ضوء تفسير سورة النساء، أوضح فيه أن سورة النساء تقدم أنموذجا فريدا ومتكاملا في بناء المجتمع الإنساني وتنظيم حياته، وتقدم حلولا جذرية لمشكلاته بما يتناغم مع الفطرة الإنسانية.
وتطرقت الدكتورة حصة العكروش لموضوع التنوع الاجتماعي في القرآن الكريم، مؤكدة أن القرآن يتناول التنوع كجزء من النظام الإلهي الذي يهدف إلى تحقيق التكافل والتوازن بين البشر. وخلصت إلى أن هذا التنوع يحقق التكامل إذا قام على قيم قرآنية كالعدل والمساواة والاحترام.

قدمت الدكتورة عليا عبد الرحمن العظم دراسة بعنوان هندسة العلاقات الأسرية في الرؤية القرآنية في ضوء النظريات الاجتماعية. اهتم البحث بتحليل شبكة العلاقات الأسرية في القرآن وقيمها الموجهة، ومقارنتها مع النظرية البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع.
القرآن والمعرفة الاجتماعية
استمر النقاش حول المعرفة الاجتماعية في الجلسة الخامسة من أعمال مؤتمر “القرآن والمعرفة الإنسانية” برئاسة الأستاذ حسين محمد نعيم الحق، حيث ناقش الدكتور طه أحمد الزيدي موضوع التصور القرآني في تعزيز التواصل لبناء المعرفة الاجتماعية، موضحا أسباب انتشار الإسلام السريع في الاعتماد على نموذج فريد للتواصل المعرفي الاجتماعي الذي وضع أسسه القرآن ومارسه النبي محمد ﷺ.
وتناول الدكتور آدم عبده يحيى أحمد في بحثه معالجة القرآن الكريم لمشكلة التنافر المعرفي في المعرفة الاجتماعية، وأظهر بحثه كيف أسهم القرآن في معالجة حالة التناقض بين السلوك والاعتقاد من خلال أساليب عقلية متنوعة توجه أصحابها إلى الاعتدال والاطمئنان النفسي.
وعرض الدكتور حمزة فرزي بحثا عن الأسس النظرية لإصلاح المجتمعات من خلال القرآن الكريم، خلص فيه إلى أن القرآن يقدم منهجا عاما في الإصلاح المجتمعي بسبب تحديد الأولويات وتقدير المصالح والمفاسد، وتحصين مسار الإصلاح من خلال مرجعية القيادة والاجتهاد التخصصي.
القرآن والمعرفة الاقتصادية
وفي المحور الاقتصادي جاءت جلسة القرآن والمعرفة الاقتصادية برئاسة الدكتور عبيد الله محجوب، وقدم الأستاذ الدكتور لحلو بوخاري رؤية حول النظام النقدي العادل مقارنا بين بخس المكاييل عند قوم شعيب والنظام النقدي المعاصر. أكد فيه أن النقود في الإسلام يجب أن تستند إلى قيمة جوهرية كالذهب لضمان العدالة، وأن استعادة نظام نقدي عادل أمر ممكن بوجود قرار سيادي وإطار فقهي وتقني.
ثم تناول الأستاذ الدكتور أسامة عبد المجيد العاني دور المعرفة القرآنية في بناء اقتصاد عادل ومستدام، موضحا أن القرآن يقدم بديلا حضاريا للنظام الاقتصادي العالمي من خلال ترسيخ الإنتاج والتوزيع العادل، واستشراف الأزمات كما في قصة يوسف عليه السلام.
واختتمت الجلسة بدراسة الدكتور محمد سالم حول مقارنة السلوك الاقتصادي الرشيد في المنظور القرآني مع النظرية الكلاسيكية، مبينا مزايا المفهوم القرآني للرشد الاقتصادي وكيف عالج القصور في النظريات الأخرى لتحقيق العدالة بين المتعاملين.
ختام جلسات “القرآن والمعرفة الإنسانية”
برئاسة الأستاذ الدكتور التجاني عبد القادر، اختتم المؤتمر أعماله بجلسة نقاشية مفتوحة عززت الحوار بين الباحثين ورسخت التوصيات بضرورة مواصلة الجهد البحثي لربط المعرفة الإنسانية بالهداية القرآنية.
برزت عبر جلسات مؤتمر “القرآن والمعرفة الإنسانية” خيوط فكرية ومنهجية مشتركة، شكلت ملامح الرؤية المعرفية التي يسعى لبلورتها. وأبرزت الأبحاث المقدمة النقد المستمر للمادية كأساس غير كاف لفهم الظواهر الإنسانية، والمركزية التي أعطيت لمفهوم الإنسان ككائن متكامل والتأكيد على ضرورة تبني مقاربة معرفية تنطلق من فهم عميق لمعاني ومقاصد القرآن الكريم.