ما يهم المسلم

يوم المعلم .. تذكير بقدسية الرسالة وتحديات الواقع


في الخامس من أكتوبر من كل عام، يتوقف العالم ليحتفي بـ اليوم العالمي للمعلم، اعترافا بمكانته ودوره في بناء الإنسان. وهذا ينسجم تماما مع تراثنا الذي رفع قدر التعليم من القرآن والسنة إلى مدارس الحضارة، ومع شهادات الأدب العربي التي جعلت تكريم المعلم معيارا لرفعة المجتمع.

وحين ندعم المعلم ماديًا ومعنويًا فإننا نستثمر في أقوى أداة تربوية تمتلكها الأمة وهي القدوة الحسنة التي تصنع جيلًا يفكّر وينقد ويبتكر ويحفظ هويته. دعونا نغتنم فرصة اليوم العالمي للمعلمين ونذكر بمكانتهم ورسالتهم السامية في العملية التربوية وكيف نعزز هذه المكانة بخطوات عملية.

حامل الرسالة بالأفعال لا بالأقوال

ينهض المعلم برسالة الإنسانية، فهو يحمل شعور الأمة ووجدانها النابض، ويصطف في مقدمة قادة الحضارات لأن البناء الحضاري سيرتفع مع علو مكانة المعلم، وبالعكس ستتأثر الأجيال وتضيع وجهتها حين يغيب تقديره. والنظرة الخاطئة لدى البعض عن المعلم أنه موظف مثل بقية الوظائف خاطئة وقاصرة لأنه دوره الكبير يساهم في رسم مسار الوعي، وحماية القيم، وبناء الضمائر.

وقد لخص هذا الدور الرسالي الشاعر أحمد شوقي:

قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا (1)

لكن تحقيق هذا الدور يواجه اليوم تحديات جسام، تهدد قدرته على أن يكون ذلك النموذج الملهم، ما لم يجد الدعم والتمكين.

النموذج النبوي التعليم بالقدوة والرحمة

الإنسان يحضر في القرآن ضمن مشهد المعرفة، إذ نال آدم عليه السلام فضيلة التعليم لقوله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها } (2). وقد جسد النبي بنفسه أرقى صور المعلم، ليس بالقول فقط، بل بالقدوة والرفق، فقال: “إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا ” (3).

هذا النموذج النبوي  الذي سبق النطريات التربوية بقرون نجد تأكيد ها بما ما عرف لاحقا في علم النفس الحديث بمفهوم النمذجة (Modeling)، حيث كانت أفعاله وسيرته هي المنهج. لقد جسد المعلم الأعظم أن التربية أعمق من التلقين، وأن التعليم رسالة رحمة تصنع القلوب قبل أن تملأ الدفاتر.

 إرث المعلم في التاريخ الإسلامي

لم يكن المعلم في حضارتنا يوما عنصرا هامشيا؛ بل كان روح المؤسسات العلمية الكبرى ومحورها. ففي الأندلس كان عماد النهضة في مدارس قرطبة، وفي الأزهر الشريف حمل السند العلمي الموثوق عبر القرون، وفي بغداد ودمشق وسمرقند اجتمع على يديه الشرع والعقل.

وأنجبت القرويين بفضل معلميها فلاسفة كابن رشد، ومؤرخين كابن خلدون، كما برزت معلمات فاضلات أمثال الشفاء بنت عبدالله وأم الدرداء. هذا الإرث العظيم يضع على عاتقنا اليوم واجبا: تمكين المعلم المعاصر ليواصل حمل الرسالة بثقة واقتدار. (4)

اقرأ أيضا

الرسول المعلم ﷺ وأساليبه في التعليم
معايير صناعة المعلم الماهر

المعلم القدوة

هذه الحقيقة ليست مجرد انطباع عاطفي، بل هي مبدأ راسخ يفسره علم النفس التربوي. وهنا يتجلى جوهر نظرية التعلم الاجتماعي (Social Learning Theory) لعالم النفس الشهير ألبرت باندورا، التي تعد المصدر العلمي الذي يوضح لماذا تأثير المعلم كقدوة يفوق بكثير تأثيره كملقن. تقوم هذه النظرية على أن البشر يتعلمون بشكل أساسي عبر التعلم بالملاحظة (Observational Learning) أي من خلال مراقبة سلوك الآخرين وتقليده. (5)

وكما أثبتت تجارب باندورا، فإن السلوك الملاحظ أكثر رسوخا من التعليمات النظرية. قد تضيع تفاصيل الدروس مع الزمن، لكن صورة المعلم الملهم، العادل، الصبور، تبقى محفورة في ذاكرة الطالب، لتشكل جزءا من منظومته القيمية وسلوكياته المستقبلية. المعلم الناجح لا يشرح الدرس فقط، بل يعيش ما يعلم، وبهذا يصنع أثرا لا يمحى.

حارس البصيرة

في عصر تتوافر فيه المعلومات بضغطة زر، قد يظن البعض أن دور المعلم يتضاءل. لكن العكس هو الصحيح؛ فدوره يتعمق ويصبح أكثر أهمية. فبينما تقدم التقنية المعلومة، يقدم المعلم النموذج الإنساني في كيفية التعامل معها. هو الحارس الأمين على لغة الأمة وقيمها، وهو من يعلم الطالب كيف يميز بين الغث والسمين، وكيف يوظف الذكاء الاصطناعي كأداة للبناء، لا كمصدر للتشتت والذوبان.

النهضة تبدأ من الفصل الدراسي

بينما يبني الاقتصاد المصانع وتشيد السياسة المؤسسات، يبني المعلم الإنسان القادر على إدارة تلك المصانع وقيادة تلك المؤسسات. النهضة الحقيقية تبدأ من تلك اللحظة التي يوقظ فيها المعلم فضولا أو شغفا في عقل طالب، فمعلم يعلم طلابه كيف يفكرون وينقدون، يحدث أثرا أعمق من الذي يملأ الدفاتر بالمعلومات؛ فالأول يبني حضارة، والثاني يكدس أوراقا.

خاتمة

روح الأمم لا تقوم على الحجارة فحسب، بل تقوم على الإنسان أولا حيث يظل المعلم حجر الأساس في هذا البناء. وإن تكريمه لا ينبغي أن يكون محصورا في يومٍ في السنة، بل يجب أن يكون تجسيدا عمليا لإدراكنا لأهميته المحورية في بناء العقول وصياغة المستقبل.

لذا يجب أن يترجم هذا الفهم إلى دعم فعلي بإجراءات ملموسة تتمثل في:

  • تحسين واقعه المادي والمهني.
  • تحديث الأدوات المتاحة له.
  • إشراكه في صناعة القرار التربوي.

فلنبدأ من الآن بقول كلمة شكر صادقة، ولنترجمها إلى دعم حقيقي، لأن أعظم استثمار تصنعه الأوطان هو أن تحفظ مقام المعلم وتزيده رفعة وبهاء.

تنزيل PDF

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى