قصة مصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف

أحد المبادئ التي يقوم عليها الإسلام هو مبدأ الجزاء، ويأتي في قمة المحفزات على العمل الصالح. لكن الناظر بعين الواقع قد يرى من بذل مجهودًا هائلًا وقدّم تضحيات كبيرة لكنه لم يحصل على شيء من الجزاء. نحاول خلال هذه السطور أن نستجلي الحقيقة، وهل هذه النظرة دقيقة أم أنها عابرة وغير متأملة؟
وتأتي محاولتنا هذه من خلال المقارنة بين نموذجين من صحابة النبي – ﷺ – وصف خبّاب -رضي الله عنه- عن أحدهما بقوله: “وقع أجره على الله”، ووصف الآخر بأنه: “أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدُبُهَا” يعني استوت ثمرته فهو يقطفها.
قيم كبرى صنعت جيلاً فريداً
قبل أن ندخل في هذه القضية المهمة، ينبغي أن نستحضر القيم الكبرى التي رباهم النبي –ﷺ– عليها حتى ندرك، لماذا كانوا يضحّون بكل ما يملكون؟ وكيف أدركوا مهمتهم في هذه الحياة والتي تتمثل في نقل هداية الله تعالى للعالمين. وهم يسعون لأداء هذه المهمة العظيمة كان في ذهن كل منهم، ما الذي يستطيع القيام به لكي يصل نور الله تعالى للخلق؟ أما ما ينتج عن ذلك من ثمار وقطفها والاستمتاع بها فكان شيئًا ثانويًا بالنسبة لهم.
لذا تجد في بدء الإسلام من آمن إيمانًا عميقًا بالله تعالى دفعه لبذل كل ما يملك في سبيل هذا المعتقد دون أن يحصل على ثمرة مما ينتظره أهل الدنيا. ومنهم من بذل الكثير وعوضه الله تعالى بخير جزيل في الدنيا مع ما وعد به من أجر كبير في الآخرة، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا.
حديث عبد الرحمن بن عوف: خشية من نعيم الدنيا
وفي الفريقين – من حصل على خير في الدنيا ومن لم يحصل – جاءت كلمة عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه:
«عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ -وَأُرَاهُ قَالَ:- وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ -أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا- وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا. ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ.»
في أحد لحظات الرخاء والعافية يتذكر عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- من سبقه من إخوانه إلى رضوان الله تعالى، ويتذكر فضلهم وجهادهم، وكيف خرجوا من الدنيا وهم في أشد حالات الفقر حتى أن مصعب بن عمير -رضي الله عنه- لم يجدوا له كفنًا. ويتأمل في حاله وما هو فيه من سعة ورغد العيش، وكيف كانت خشيته من الدنيا وكيف تأثر من هذه المقارنة إلى حد البكاء وترك الطعام.
أسئلة جوهرية حول جزاء العمل الصالح
وهنا تبرز قضية مهمة، قضية الثمرة والجزاء على العمل الصالح. وتطرح عدة تساؤلات:
- هل لابد أن يجني المسلم ثمار عمله في الدنيا؟
- هل يمكن أن يرزقه الله تعالى نعمًا لا يستطيع أهل الدنيا أن يدركوها؟ لأنهم لا ينظرون إلا إلى نصيب صغير من نعم الله تعالى هو ما يتعلق بالمتاع الوقتي السريع الزوال.
- هل يكتفي من عمل صالحًا بما أعده الله تعالى للمتقين في الجنة، ويتطلع لذلك معرضًا عن الدنيا وما فيها؟
- هل كل من عمل الصالحات أجورهم مؤجلة أم يمكن أن يكون منهم من يحصل على شيء في الدنيا وأشياء في الآخرة؟
- هل من الأجور المؤجلة ما يتوارثه أبناء الصالحين من الستر وحسن السمعة والتوفيق وتيسير الأمور وتسخير الناس لمساعدتهم، إلى غير ذلك من نعم تتوارثها الأجيال؟
مصعب بن عمير: نموذج الأجر المؤجل والسرور القلبي
عندما نتتبع سير الصحابة والصالحين من بعدهم نجد نموذج مصعب بن عمير – رضي الله عنه – ذلك النموذج الفريد للتضحية والانتقال من حياة لينة إلى عيشة خشنة. ونتساءل هل حصل على أجر في مقابل هذه التضحية الكبيرة؟ أعتقد أن كل بيت دخل فيه نور الإسلام كان يدخل قلب مصعب -رضي الله عنه- الكثير من النور والسرور، وهذه النعمة لا يستطيع أحد أن يقيّمها لا بمال ولا بأولاد ولا بشيء من الدنيا التي تتوافر الكثير من أسباب السعادة لبعض أبنائها لكنهم لا يشعرون بهذه السعادة، بل لا يشعرون بمرور طيفها من جانبهم.
لقد جنى مصعب بن عمير – رضي الله عنه – بعض ثمار جهوده في الدنيا قبل أن يرى ما أعده الله له من العوض في الآخرة؛ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
عبد الرحمن بن عوف: نموذج الثواب المعجل مع الخشية
وفي المقابل، هناك من رأى بعض ثمار عمله في الدنيا سعةً في المال وكثرةً في الولد ورخاءً في العيش، وهم كثير من صحابة النبي – ﷺ – مثل عبد الرحمن بن عوف وأنس بن مالك وعثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وغيرهم كثير رضوان الله عليهم جميعًا.
والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه: هل كانت الدنيا في أعينهم وهم يسيرون مع النبي ﷺ؟ وبتعبير آخر، هل كان أحدهم يضمن أن يعيش إلى أن يرى الفتح ويحصل على الغنائم ويأمن من الأخطار؟
ونلحظ أن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه – تذكر من سبقه إلى الله تعالى من إخوانه دون أن يأخذوا نصيبًا مما يعده أهل الدنيا غايتهم. تذكر ذلك والطعام الهنيء بين يديه والأمن من المخاوف حاصل، كل ذلك لم ينسه الماضي وما فيه من جهاد أصحابه. لقد تأثر تأثرًا كبيرًا لدرجة أنه ترك الطعام ولم يستطع إكماله. ومع كون عبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – من العشرة المبشرين بالجنة، إلا أنه كشأن أهل العزائم وأصحاب الهمم العالية يتطلع إلى أعلى الجنة ومصاحبة من في الفردوس، ويخشى أن يؤثر نصيبه من النعم والمتع التي حصل عليها في الدنيا على نصيبه في الآخرة.
دروس وعبر من سيرة الصالحين
«وفى حديث عبد الرحمن من الفقه أن العالم ينبغي له أن يُذَكّر بسير الصالحين، وتقللهم من الدنيا لتقل رغبته فيها، ويبكي من تأخُّر لحاقه بالأخيار ويشفق من ذلك، ألا ترى أنه [عبد الرحمن بن عوف] بكى وترك الطعام. وفيه: أنه ينبغي للمرء أيضًا أن يذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكرها، ويتخوف أن يُقَاصَّ بها في الآخرة، ويذهب سعيه فيها. وقال عبد الواحد: إن قال قائل: لِمَ بكى عبد الرحمن وقد ضمن له النبي الجنة، وهو أحد العشرة؟ قيل له: كان الصحابة مشفقين خائفين من طول الحساب والوقوف له، مستصغرين لأنفسهم، راغبين في إعلاء الدرجات، وإن كانت الجنة قد ضٌمنت لهم، فلذلك كانوا يبكون خوفًا من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى، ومن طول الحساب».




