ما يهم المسلم

اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية .. تتويج لمشروع حضاري ومنارة لغوية


يمثل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي شهدت الدوحة حفل تتويجه مؤخراً، محطة تاريخية فارقة في مسار البحث اللغوي والمعجمي العربي. هذا الإنجاز، الذي وُصف بأنه تتويج لأحد أكبر المشروعات اللغوية في العصر الحديث، لم يكن مجرد إصدار معجمي تقليدي، بل هو إعلان عن نجاح عمل مؤسسي ضخم، امتد لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، وشارك فيه نخبة من العلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم العربي .

في حفل جمع بين البُعد العلمي والحضاري والرمزي، شهدت الدوحة في 22 ديسمبر 2025 لحظة استثنائية في مسيرة اللغة العربية: اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. هذا الحدث، الذي رعاه حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر المفدى، لم يُعَدّ مجرّد احتفال بإنجاز معجمي، بل كان تتويجًا لأحد أكبر المشروعات اللغوية في العصر الحديث — مشروعٌ استغرق أكثر من عقد من العمل الدؤوب، وشارك فيه مئات الباحثين والخبراء من مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي، بل ومن خارجه.

لحظة تاريخية لأكبر المشروعات اللغوية في العصر الحديث

حفل اكتمال المعجم جاء ليؤكد المكانة المحورية لهذا المشروع، وليعكس عمق الاهتمام الذي توليه دولة قطر للغة العربية بوصفها ركيزة أساسية للهوية والثقافة العربية. إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، بما يمثله من جهد علمي ومنهجي غير مسبوق، يقف اليوم كمنارة ثقافية ولغوية، لا تضيء تاريخ الكلمة العربية فحسب، بل ترسم ملامح مستقبلها في العصر الرقمي .

رسالة اللغة العربية

في زمنٍ تُهدَّد فيه الهويات الثقافية بالتبدُّل أو التهميش، وجّه هذا الإنجاز رسالة واضحة: اللغة العربية قادرةٌ على التجدد، وتستحق أن تُدرَس بمنهجية علمية عالمية، وأن تُوثَّق بدقة أكاديمية لا تقل عن أعرق اللغات في العالم. ومعجم الدوحة ليس وثيقة لغوية فحسب، بل هو منارةٌ ثقافية تُضيء مسار الحضارة العربية، وتُعيد للعربية مكانتها كأداةٍ للتفكير العلمي والفلسفي والابتكار في العصر الرقمي.

معجم الدوحة التاريخي .. رؤية علمية ومشروع حضاري

يُعَد معجم الدوحة التاريخي للغة العربية أول معجم تاريخي عربي شامل من نوعه، يهدف إلى تتبع تطور الألفاظ العربية — لفظًا وصرفًا ودلالةً واستعمالًا — على امتداد أكثر من عشرين قرنًا، منذ بدايات النصوص العربية المدوّنة (كالنقوش والخطب والشعر الجاهلي) وصولاً إلى العصر الحديث. وخلافًا للمعاجم التقليدية التي تُركّز على المعنى الحالي أو على ترتيب حسب الحروف، فإن هذا المعجم يعتمد المنهج التاريخي المقارن، فيُسجّل كل شكل من أشكال الكلمة، ويُوثّق سياقات ظهورها عبر النصوص، ويحلّل تحوّل دلالاتها بمرور الزمن، معتمدًا على مدونة ضخمة من المصادر الأدبية والعلمية والدينية والفقهية والتاريخية.

شعار معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، يتضمن تصميمًا فنيًا أنيقًا مع نص باللغة العربية وألوان دافئة، يمثل التراث اللغوي العربي.
معجم الدوحة التاريخي

ويتألّف المعجم من مدخلات دقيقة، تشمل:

  • التوثيق الزمني لأول ظهور للفظ.
  • تتبُّع التحوّلات الصرفية والنحوية.
  • استعراض السياقات الثقافية والحضارية التي أثّرت في دلالة الكلمة.
  • الإحالات إلى النصوص الأصلية مع التحقيق العلمي والتدقيق النقدي.

وبهذا، يتحوّل المعجم من أداة لغوية إلى موسوعة معرفية تُمكّن الباحث من قراءة التاريخ العربي عبر الكلمة، بل ومن فهم تحوّلات الفكر العربي عبر تبدّل معاني مصطلحاته.

الرؤية والمنهجية .. تتبع حياة الكلمة

يتميز معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بكونه ليس مجرد قاموس يجمع الألفاظ ومعانيها، بل هو سجل تاريخي شامل يوثق حياة الكلمة العربية وتطورها عبر ما يزيد على عشرين قرناً، بدءاً من أقدم النصوص المكتوبة وصولاً إلى العصر الحديث . هذا التوثيق الدقيق يجعله مشروعاً فريداً من نوعه، ويمنحه قيمة علمية وحضارية استثنائية.

اعتمد المعجم منهجية علمية صارمة ومبتكرة، تختلف عن المعاجم السابقة التي كانت تركز على اللغة والمعاني دون البعد التاريخي. يقوم معجم الدوحة على مبدأ التأريخ للفظ، أي تتبع الورودات الأولى لكل كلمة ومتابعة تحولاتها الدلالية والصرفية والاستعمالية عبر العصور .

1.المدونة النصية المؤرخة

يعتمد المعجم على مدونة نصية ضخمة ومؤرخة وموثقة، تشمل مصادر من مختلف العصور، مما يتيح للباحثين رصد التحولات الدلالية للكلمة في سياقاتها الزمنية والمعرفية والحضارية .

2.المنهج التاريخي الوصفي

يوصف المعجم بأنه “تاريخي وصفي”، حيث يرصد الألفاظ بحسب أقدم سياق لها، ثم يتابع تطورها، مقدماً بذلك صورة حية وديناميكية للغة العربية، بعيداً عن الجمود .

3.العمل المؤسسي الجامع

أكدت سعادة السيدة لولوة بنت راشد بن محمد الخاطر، وزير التربية والتعليم والتعليم العالي، أن المعجم نجح في صهر التباينات بين المشتغلين عليه، رغم اختلاف مشاربهم وانتمائهم إلى مدارس فكرية متباينة، حيث اجتمعوا لأكثر من 10 سنوات في سبيل إنجاز مشروع جامع ونافع ضمن إطار منهجي موحد . هذا التضافر يؤكد أن العلم رحب بين أهله، وأن العمل الفكري الجاد والمستمر ما يزال ممكناً في الوطن العربي .

القيمة العلمية والحضارية: حفظ الهوية وإحياء الأمل

إن الأهمية العلمية لمعجم الدوحة التاريخي تتجاوز حدود علم اللغة، لتلامس البعد الحضاري والمعرفي للأمة.

•توثيق الذاكرة اللغوية: يمثل المعجم استعادة للذاكرة اللغوية للعربية، ويعيد للأمة الثقة في ذاتها وفي قدراتها، ويحيي لديها الأمل في تحقيق طموحاتها الحضارية، كما وصفه الدكتور عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي للمعجم .

•ركيزة للبحث العلمي: يتيح المعجم إمكانات علمية غير مسبوقة للباحثين والدارسين، لتوثيق تاريخ اللغة العربية وخدمة البحث المعجمي واللغوي، مما يضمن للغة استعادة مكانتها اللائقة في مجالات المعرفة والبحث العلمي .

•الإسهام في العصر الرقمي: شدد الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على أن مدونة المعجم لا تقتصر على خدمة الباحثين، بل تتجاوز ذلك إلى الإسهام في تطوير التطبيقات العربية للذكاء الاصطناعي، مما يعزز حضور اللغة العربية في العصر الرقمي .

قطر .. ريادة في دعم الثقافة واللغة العربية

لم يكن معجم الدوحة التاريخي ليُنجز بهذا الحجم والعمق لولا الرعاية والدعم اللامحدود الذي قدمته دولة قطر، مما يعكس اهتمامها العميق بالثقافة العربية عموماً واللغة العربية على وجه الخصوص.

إن احتضان دولة قطر لهذا المشروع العلمي الوازن، وتوفيرها للموارد والمساحات الآمنة لحوار حقيقي واشتباك معرفي بناء، هو دليل على دورها الريادي في دعم الحركة الفكرية واللغوية العربية .

كما أن استضافة دولة قطر لهذا المشروع العظيم لم تأتِ من فراغ. فقد بنت قطر على مدار العقدين الماضيين رؤيةً ثقافية طموحة، تضع اللغة العربية في قلب استراتيجيتها الوطنية للتنمية، لا كتراثٍ فقط، بل كأداةٍ للابتكار والانخراط مع العصر. وتنبثق هذه الرؤية من إيمان راسخ بأن الهوية لا تُبنى بالعزلة، بل بالتفاعل مع الحداثة بثقة ووعي.

الاستثمار المؤسسي في اللغة العربية

شكّل تأسيس معهد الدوحة للدراسات العليا، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والمكتبة الوطنية القطرية، وجائزة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للتميز في اللغة العربية، جزءًا من منظومة متكاملة لدعم الدراسات اللغوية والتراثية. ومعجم الدوحة هو ثمرة هذا الاستثمار المؤسسي، حيث أُنفق عليه موارد بشرية ومادية كبيرة، ووُظّفت له أحدث التقنيات الرقمية، ووُفّرت له بيئة أكاديمية مستقلة تسمح بالتفكير الطويل الأمد بعيدًا عن ضغوط “الموسمية الثقافية” التي تذكّرنا بها السيدة لولوة الخاطر.

الحوار الثقافي كخيار استراتيجي

أبرزت قطر — من خلال هذا المشروع — أن الحوار الفكري المبني على الاختلاف البنّاء ممكنٌ في واقعنا العربي. فقد جمع فريق العمل خبراء من مدارس لغوية وفكرية متنوعة: تراثيون ومحدّثون، توجّهيون وتحليليون، عرب وأجانب (مستشرقون وباحثون من جامعات أوروبية وأمريكية). ولم تكن المهمة سهلة: فالتوفيق بين مناهج التحليل الدلالي الحديثة وضوابط التراث العربي يتطلب مرونةً علمية ورصانةً منهجية. ومع ذلك، نجح الفريق في تأسيس “إجماعٍ معرفي” حول ضرورة خدمة اللغة لا عبر الجدل العقيم، بل عبر الإنجاز المشترك.

دعم اللغة العربية في العصر الرقمي

من أبرز ملامح مشروع معجم الدوحة توجّهه الرقمي الاستباقي. فلم يُكتَب المعجم ككتاب ورقيٍّ تقليدي، بل صُمم منذ البداية كمدوّنة رقمية ديناميكية، وُفّرت لها بوابة إلكترونية متطورة تتيح البحث عبر الزمن، والمقارنة بين الدلالات، ورسم “خرائط دلالية” للكلمة. هذه الخطوة تُظهر إدراكًا عميقًا لأن مستقبل اللغة العربية ليس فقط في الفصول الدراسية، بل في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ومحركات البحث اللغوية، والمنصات التعليمية التفاعلية — كما أشار إلى ذلك الدكتور عزمي بشارة.

تتميز البوابة بتصميمها الحديث وبنيتها التقنية المتقدمة، وتتيح أدوات بحث واستكشاف تمكن المستخدمين من تتبع تاريخ الألفاظ ودلالاتها بسهولة ودقة. هذا التوجه نحو تعزيز الحضور الرقمي للمعجم يمثل خطوة استراتيجية لضمان أن يظل المعجم مشروعاً متجدداً يخدم الأجيال القادمة، ويعزز التكامل بين العمل المعجمي والوسائط الرقمية المعاصرة .

بالإضافة إلى المعجم، تظهر جهود قطر في دعم اللغة العربية من خلال مبادرات أخرى، مثل:

•الجمعية القطرية للغة العربية: التي تُعنى بدعم وتمكين اللغة العربية وترسيخ استخدامها كجزء أساسي من الهوية الثقافية .

•دعم المشاريع الدولية: مثل المساهمة في مشروع “بيت اللغة العربية” في باريس، مما يؤكد الدور الهام لقطر في نشر اللغة العربية عالمياً .

احتفال بإكمال معجم الدولة التاريخي للغة العربية، بحضور شخصيات بارزة في مجال الثقافة واللغة، مع خلفية زرقاء مزخرفة.
جانب من حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

أصوات الخبراء .. قراءات في دلالة الإنجاز

الاحتفاء باكتمال المعجم لم يكن شكليًا؛ بل تجلّت أهميته في الكلمات التي أُلقيت في الحفل، والتي قدّمت قراءات عميقة لأبعاده العلمية والحضارية:

● السيدة لولوة الخاطر: المعجم كـ “أرض خصبة لمشروع نهضوي”

شدّدت الوزيرة على أن المعجم ليس نهاية طريق، بل بداية لمرحلةٍ جديدة. فاستثماره في التعليم — من المناهج المدرسية إلى برامج الدراسات العليا — يمكن أن يُعيد تعريف علاقة الجيل الجديد بلغته، ليس على أساس الحفظ والتلقين، بل على أساس الفهم والتأمل في تحوّل المعنى عبر الزمن. كما ربطت بين جدية المشروع واستمراريته، وبين الحاجة الماسّة إلى كسر دائرة “الموسمية الثقافية” التي تُفرغ العمل الفكري من مضمونه.

● الدكتور عز الدين البوشيخي: رؤية معرفية شاملة

وصف المدير التنفيذي للمشروع المعجم بأنه “رؤية معرفية”، لا مشروعًا لغويًا فحسب. وهذا التصنيف دقيق: فتاريخ الكلمة يعكس تاريخ المفاهيم، وتبدّل الدلالة يُشير إلى تحوّل في البنية المعرفية للمجتمع. فمثلاً تتبع مصطلح “العقل” أو “الحرية” أو “العدل” عبر القرون، يُتيح فهم تطوّر الفلسفة السياسية أو الأخلاقية في الفكر العربي — وهو ما يجعل المعجم أداةً لا غنى عنها لدارسي الفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية.

● منظمة الإيسيسكو ومجمع اللغة العربية بدمشق: دعم عربي مؤسسي

تأييد منظمة الإيسيسكو ومجمع دمشق — وهما من أعرق المؤسسات الثقافية العربية والإسلامية — يُضفي على المشروع شرعية علمية واسعة، ويُسهّل تعميمه في الجامعات والمراكز البحثية عبر 57 دولة عضوًا في منظمة التعاون الإسلامي. كما يفتح الباب أمام ترجمة أجزاء منه إلى لغات أجنبية، مما يُسهم في تصحيح الصورة النمطية عن اللغة العربية باعتبارها لغةً دينية فقط، لا لغة علمٍ وفلسفة وتكنولوجيا.

تحديات ما بعد الإنجاز

رغم الإشادة الكبيرة، لا يمكن تجاهل التحديات التي واجهها المشروع — أو التي تنتظره بعد:

المصادر المتناثرة: فكثير من النصوص التي اعتمدها المعجم كانت مخطوطة أو مُهمَلة، فتطلّب العمل تحقيقاتٍ أولية قبل الدخول في التحليل اللغوي.

الاختلاف المنهجي:

فبين منهج التحليل السردي للكلمة، ومنهج البنية الدلالية، ومنهج التداولية، كان على الفريق إيجاد “لغة مشتركة” علمية تضمن الدقة دون إقصاء.

التحديث المستمر:

فاكتمال الطبعة الأولى لا يعني نهاية العمل. فالمعجم التاريخي مشروعٌ حيّ، يحتاج إلى إدخال نصوص جديدة، وتحليل استعمالات العصر الرقمي (مثل مصطلحات الذكاء الاصطناعي أو البيوتكنولوجيا)، بل وإعادة النظر في بعض الدلالات في ضوء اكتشافات أثرية أو لغوية جديدة.

الاستفادة الفعلية من المعجم:

كيف يُدمج في مناهج التعليم؟ كيف يُستخدم في بناء نماذج لغوية عربية للذكاء الاصطناعي؟ كيف يُسهّل على الكتّاب والصحفيين والشعراء اختيار اللفظ الأنسب في سياقه التاريخي والدلالي؟ هنا تكمن مسؤولية المؤسسات التعليمية والإعلامية والتقنية — وهي مسؤولية يجب أن تبدأ من اليوم، لا غدا.

المعجم كجسر بين الماضي والمستقبل ومشروع نهضوي بامتياز

إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو في جوهره جسر يربط بين عراقة الماضي ومتطلبات المستقبل. إنه يعيد بناء الوعي بتاريخ العربية، ويرسخ مكانتها كلغة حية قادرة على التجدد، ومواكبة متطلبات العصر، والمشاركة الفاعلة في المشهد المعرفي العالمي .

لقد واجه العمل في المعجم تحديات علمية ومنهجية كبيرة، نظراً لتعدد المصادر وتنوع الاستعمالات اللغوية، والحاجة للتدقيق والتحقيق في المصطلحات في مختلف المجالات. لكن تضافر الجهود والإيمان بأهمية خدمة اللغة العربية مكن الفريق من تقديم مادة علمية دقيقة تلبي احتياجات الباحثين والمهتمين .

إن اكتمال هذا المشروع لا يمثل نهاية، بل هو بداية مرحلة جديدة في توظيف هذا المورد المعرفي الهائل في خدمة اللغة العربية ومستقبلها، واستثمار نتائجه في مجالات التعليم والبحث العلمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لتبقى اللغة العربية لغة العلم والمعرفة في كل عصر .

معجم الدوحة التاريخي
معجم الدوحة التاريخي

يمثل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية إنجازاً حضارياً ومعرفياً بامتياز، يجسد قدرة العمل العلمي العربي المؤسسي على إنجاز مشروعات استراتيجية طويلة الأمد. إنه ليس مجرد معجم، بل هو رؤية معرفية شاملة، ومنصة لغوية رقمية متقدمة، ورمز لالتزام دولة قطر تجاه هويتها الثقافية ولغتها القومية.

لقد أثبتت الدوحة من خلال هذا المشروع أنها قادرة على أن تكون مركزاً للإشعاع الثقافي واللغوي، وأنها مستعدة لتكون حاضنة للمشاريع الفكرية والنهضوية التي تخدم الأمة والإنسان المعاصر. إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو إرث للأجيال القادمة، وخطوة عملاقة نحو استعادة اللغة العربية لمكانتها الريادية في المشهد العالمي.

اكتمال المعجم لحظة انطلاقة، لا اختتام

إن قراءة هذا الإنجاز في سياقه الأوسع تُظهر أن الدوحة، اليوم، لم تعد فقط مركزًا للاقتصاد أو الرياضة أو الدبلوماسية، بل أصبحت عاصمةً للتفكير الاستراتيجي في الثقافة العربية. فما قامت به قطر مع معجم الدوحة يشبه — في جسامة الهدف — ما فعلته باريس مع “المعجم التاريخي للغة الفرنسية”، أو أكسفورد مع “معجم أكسفورد الإنجليزي”، لكن بسياق عربي أصيل ورؤية إسلامية مسؤولة.

والأهم أن المشروع لم يُبنَ على النخبوية المغلقة، بل على الانفتاح: فقد تضمّن فريق العمل باحثين من المغرب إلى العراق، ومن السودان إلى الشام، بالإضافة إلى خبراء من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وهذا يُثبت أن العمل الثقافي العربي قادرٌ على بناء “شبكات معرفية عابرة للحدود”، شرط توفّر الرؤية والإرادة والموارد.

اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ليس نهاية مطاف، بل هو بداية عهدٍ جديد — عهدٌ تُستخدم فيه اللغة العربية كأداة للابتكار، لا كرمز للماضي فقط. فالمعجم يُقدّم للباحث مادةً علمية دقيقة، وللمُعلّم مصدرًا تربويًا غنيًا، وللمُبرمج بياناتٍ لغوية مُصنّفة، وللشاعر والكاتب ذاكرةً دلاليةً عميقة تُثري لغتهم.

وفي زمنٍ تُهدّد فيه العولمة اللغوية — ولا سيما هيمنة الإنجليزية الرقمية — وجود اللغات الصغيرة، فإن مشروعًا كمعجم الدوحة يُعلن: اللغة العربية ليست في “دفاع”، بل في “هجوم معرفي” — هجومٌ يُعيد تعريفها كلغة علمٍ وتقنية وفلسفة، قادرةٍ على صياغة المستقبل كما صاغت الماضي.

وبذلك، تُؤكّد دولة قطر، من خلال هذا المشروع، أن خدمة اللغة العربية ليست مسؤولية جغرافية، بل رسالة حضارية. والدوحة، التي احتضنت هذا الحلم، أثبتت أنها ليست فقط مكانًا على الخريطة، بل فكرةً في الذهن — فكرةُ إمكانية النهضة عبر العلم، والوحدة عبر التنوّع، والهوية عبر الانفتاح.

“اللغة ليست فقط وسيلة تعبير، بل هي عالمٌ كامل من المعاني، ومفتاحٌ لفهم الذات والآخر. ومعجم الدوحة هو ذلك المفتاح — مصنوعٌ بدقة، ومفتوحٌ للجميع.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى