الشاعر أحمد محرم .. رائد الشعر القصصي وصاحب “الإلياذة الإسلامية”
من الذين أجادوا صناعة الأفكار وهز الوجدان وأخلصوا الفكرة يأتي الشاعر أحمد محرم صاحب الموهبة العملاقة التي تضعه بإمتياز مع كبار شعراء العربية في كل عصورها والذي حرمته مزاياه وسجاياه العديدة (كالعكوف على فنه والإخلاص له) من شهرة نالها الكثير من الشعراء الذين لا يصلون لربع قامتة الشعرية الضخمة!
لا أعرف من هو الذي كان يدعو الله أن لا يحول نعم الله عليه إلى نقمه، هل كان عالمًا أم شاعرًا أم وليًا من أولياء الله لكن الذي نعرفه أن هذا الدعاء هو الأنسب والأصلح في عالمنا العربي وفي الشرق بشكل عام حيث تتجمع عوامل عدة تجعل من النعمة نقمة ومن النبوغ مأساة ومن التفرد كارثة وكل ما يمكن أن يساهم به الفرد في تغيير المجتمع للإمام سببًا في توتر العلاقة بينه وبين المجتمع الذي يجيد الانتقام ممن يحاولون تغييره بأفكارهم ومواقفهم!!
حدث هذا مع الكثيرين لكنه كان أكثر وضوحًا وتحديدًا مع قلة من أصحاب المواهب الكبرى الذين أجادوا صناعة الأفكار وهز الوجدان وأخلصوا الفكرة وهدف شغلتهم عن أشياء بالغة الأهمية في مجتمعنا العربي السعيد مثل الدعاية والعلاقات والإعلانات واستجلاب رضا من سوي ومن لا يستوي!!
في القلب من هؤلاء يأتي الشاعر أحمد محرم صاحب الموهبة العملاقة التي تضعه بإمتياز مع كبار شعراء العربية في كل عصورها والذي حرمته مزاياه وسجاياه العديدة (كالعكوف على فنه والإخلاص له) من شهرة نالها الكثير من الشعراء الذين لا يصلون لربع قامتة الشعرية الضخمة!
واثناء الاعداد لهذا الموضوع عن الشاعر أحمد محرم طارده سوء الحظ حتى بعد مماته أيضا فلم نجد له صورة واحدة فى ارشيفات الصحف والمجلات لنعرضها مع المووضوع لكننا وجدنا الكثير عن حياته وشعره وأرائه وكلها توضح مكانته واستحقاقه للالتفات له بعد طول تجاهل.
من هو الشاعر أحمد محرم؟
ولد الشاعر أحمد محرم يوم السبت الخامس من محرم سنة 1294هـ، الموافق 20 من يناير سنة 1877م، وكانت ولادته في حي باب الوزير من أحياء القاهرة كان والديه تركيين، الأب تركي خالص النسب لم يختلط دمه بدم عربي أم الأم فاختلط نسبها بالدم المصري وتنسب لعائلة الدرملي بالقاهرة، وككثير من كبار الأدباء والمفكرين في مصر ممن امتزجت فيهم عدة أعراق فإن الشاعر أحمد محرم قد ورث خصائص الدم التركي والمصري حيث تكون مزاجة من مجموع هذه الخصائص.
كان والده “حسن أفندي عبد الله” و رغم أصله التركي ـ رجلا شديد التعلق بالعروبة محبًا لآدابها وتاريخها متدينًا شديد التمسك بالأصول الإسلام وشعائره، وإلى جانب قراءات الموسعة فقد ورث الشاعر أحمد محرم من أبيه تدينه وإشادته بمجد الإسلام ودفاعه عنه.
نشأته وتعليمه وشعره
وفي طفولته ذهب الشاعر أحمد محرم مع والده الذي نقل إلى البحيرة وهناك ابتدأ حياة جديدة وتعرف فيها على الريف وعرف حياة البسطاء من الفلاحين ومدى توغل الشعور الديني لدى البسطاء وحينما أرسله والده للقاهرة لمدرسة داخلية بعث لأبيه بقصيدة يشكو له فيها حنقه من خشونة نظام التدريس وجفافه بالنسبة له وعدم قدرته على الاستمرار رفيه وعلى الفور أعاده أبوه إلى القرية وأحضر له بعض أستاذة الأزهر يلقنونه فقه اللغة وآدابها وفي دمنهور تعرف محرم على الشيخ “جاد علوان الذي كان شيخًا ذائع الصيت عالم باللغة وأسرارها وعنده حضر مجالس أدبية ودينية القي فيها بعض قصائده المبكرة وهي القائد التي لفتت إليه الأنظار بقوة حتى أن الكثير من رواده ندوه الشيخ جاد كانوا يحفظون هذه القصائد عن ظهر قلب، وفي هذه المرحلة الباكرة من حياته بدأت متابعه فهو بطبعه أميل للعكوف على القراءة والدرس بمفرده وأميل للعزلة والتفكير وبعد فترة ضاقت أمه برفضه أن يعمل أعمال كثيرة بعيدة عن الكتابة والتأليف، وقد صور محرمن موقف أمه في بعض قصائه فقال على لسان أمه:
- أبني إن المرء يغني شأنه فيعيش في الأهلين وهو محبب
- وأراك في شرخ الشباب وروقه يغدوك والدك الكبير الأشيب
- لا مال تكسبه ولست ببارح تغني ونتلف جاهدًا ما يكسب
- تدع السراج فلست تطفئ نوره حتى ترى أخرى النجوم تغيب
- أيباع هذا الشعر أم أنت امرؤا تهوى من الأشياء ما يتجنب
ولم يكن الشاعر أحمد محرم بالطبع يهوى البطالة بل كان قادرا على يعمل كثيرًا جدًا لكنه كان يريد ألا يشغله شيء عن شعره خاصة وأنه مولع بمعالي الأمور متعاليا على الصغائر مستمسك بالأخلاق الفاضلة والبعد عن اللذائذ والشهوات التي روق لنسان في صباه وشبابه وقد عبر عن نضوره من اللهو والعبث بشعر قوى وجميل قاله في حباه الباكر:
- قالوا: زمان الصبا لهو لصاحبه فقلت مالي أراه وهو لي كمد
- إني امرؤ ما جد الأخلاق فاضلها ما عا بني لعب يومًا ولا فند
- سموت بالجد والصدق اللذين هما خدناي أيهما أبغي واعتمد
- ما عا بني غير حساد بليت بهم وهل يعيب شريفًا في الودي حسد
وفي هذه البيت الأخير يكمن ملمح هام من ملامح سيرة وشخصية شاعرنا الكبير، فقد كان ذو طاقة شعرية هائلة وموهبة قل نظيرها لكنه مع هذا شديدة الاعتداد برأيه حتى ولو خالف آراءه معاصر به وقد جلب له هذا كله نوع من الحسد والغيرة، أصاباه بكثير من الأذى والشرور والمعاندة حتى مال في شبابه الباكر لنوع من العزلة والتبتل والوحشة ظهرت في شهره الذي مال في بعض لمذهب أبي العلاء في الخدر من الدنيا وغني الانقطاع عنها:
- أما الغلام فما أفارق أثمه إذا كان عندي أقطع الأثام
- ماذا جنى فيكون بعض جزائه دار الشفاء وموطن الآلام
- لله شرع أبي العلاء فإنه شرع يعظمه ذوو الأحلام
- رضي التبتل ليس يؤثر غيره حتى انقضت أيامًا بسلام
غير أنه وإلى جانب ما ناله الشاعر أحمد محرم من الحسد والغيره فقد نال أ]ضًا وعلى جانب آخر الكثير من التوقير والاحترام من م عاصريه من الأدباء الكبار الذين عرفوا قيمته وحينما قدم محرم، الألياذة الإسلامية والتي حكي فيها بمد الآلاف الأبيات تاريخ الإسلام وسير الخلفاء وأيام الفتوحات، كان قد أخذ مكانه التي يستحقها كشاعر ملتزم بقضايا أمته وبطريقة العرب في الشعر حيث كان يري الكلام الكثير عن التجديد صربًا من اللغواء والثرثرة وأن التجديد الحقيقي هو الغاء كلمة جديدة على مسامع الدهر ولكن بحفاظ كامل على الأوزان والقوافي وإحياء اللغة وإلباسها أثوابًا جديدة وقد كان بالفعل يغاله في الشعر القصصي ضرب هام من ضروب التجديد لم يكن موجودًا في الشعر العربي قبل “الألياذة الإسلامية” بهذه الروعة والضخامة والامتداد، وكان طبيعيًا وأحمد محرم مشغول بشعره مهموم بأمته أن تتعثر حياته حيث عاني كثيرًا من شطف العيش وخشونته مع عدم انتظامه في عمل ثابت يليق به وقد عبر عن حزنة وغضبه بأبيات بلغيه وبالغة التأثير:
- هيهات لا كتبي ولا أقلامي تغني بني إذا حم حمامي
- هذي القصائد ما انتفعت بنظمها فعلام أرجوها لنفع غلامي
- أيضًا الأقوام من بعدي بها فلقما تدوي بذاك غطامي
- النار أولى بالذي أنا جامع إما لدفء أو لنضج طعام
- هبني ابا تمام في إبداعه ماذا يسرك من أبي تمام
- أودى فضاع فريضة في معشر ليسوا بأعراب ولا أعجام
- المال أصبح خير شيء يقتنى لا شيء يعدله لدى الأقوام
وهي أبيات قريبة الشبه بذلك الإحساس الساري في أشعار واحد من أعظم شعراء العرب وهو “ابن الرومي”.كان مثل محرم شاعرا عظيما مغبونا أشد الغبن في عصره، وإذا كان الشاعر أحمد محرم قد تناول النقد وكتب العديد من الأبحاث مثل ” الشعر الباكي في الأدب العربي” و”شعر الهجاء” و”أدباؤنا المنسيون”، و”الشعر العصري” إلى جانب نقده للعديد من أثار شعراء عصره مثل النقد الذي كتبه حول ديوان “الشعلة” لأحمد زكي أبو شادي، و”نقده لقصائد حافظ إبراهيم وتوفيق البكري وإسماعيل صبري.
أحمد محرم شاعر الإلياذة الإسلامية
إلا أن أثاره الشعرية الكبرى تبقي الأثر الأهم الذي يحفظ له مكانه عالية لم يدانيه فيها حتى الآن أحد فشاعر الإلياذة الإسلامية هو الذي أصدر الجزء الأول من ديوانه سنة 1908 على حين ظهر الجزئ الثاني في 1920 و”ديوان مجد الإسلام” هو عمل هائل ونادر في أربعة أجزاء وسجل خلالها حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأشهر غزواته وسرياه في خمسة آلاف ومائتي بيت وقد كان هذا الإنتاج الشعري الغزير وفي ناحية لم يتطرق (ويتخصص) فيها شاعرا سببًا في أن يكتب النقاء والشعراء عن مكانته كشاعر كما لم يكتبوا عن أحد فض ما إذ شاعر الخلافة (السيد أبو النصر السلاوي) إن يجمع أثار البلغاء من شعراء عصره في كتابه “عكاظ الأدب” بدأ الجزء الأول سبع قصائد سماها “تعلقات” وإبان أنه أسماها معلقات لأنها مما يعلق في الصدور لنفاسته وقوة بيانه وعدة محرمًا من أصحاب هذه المعلقات حيث اختار قصيدته التي يمدح فيها عمر بن الخطاب والتي يبدأها بقوله:
- منازل سلمي لاعدتك القمائم وإن درست بالجزع منك المعالم
وهي قصيدة كان قد كتبها وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة، أما ولي الدين يكن فقال ـ محرم في شهره نسيج وحدة وهو أقرب الشعراء المعاصرين ديباجة من شعراء العرب وإننا نستطيع القول أن محرمًا وحافظًا أفصح شعراء زماننا أما أحمد كاشف الذي كان أديبًا وشاعرًا شهيدًا في هذه الأيام مكتب عنه لقد أصبح ذكر هذا الشاب الجليل أحمد أفندي محرم متداولا على السن الأدباء ومحبوب لديهم لما اشتهر به من علوا سهمه، وبعد النظر في كتابته التي تعطرت بها الصحف وضربت بجودته ومتانتها الأمثال
أحمد زكي: “محرم مدرسة”
أما الشاعر أحمد زكي أبي شادي فيري أن الشاعر أحمد محرم “مدرسة في ذاته جمعت بين مزايا المحافظين والمجددين على السواء وأنه يجمع بين أسلوب المحافظين في خلوصه ونصاعته وبين روح التجديد في إقباله على المعاني الوجدانية والصور الممثلة لروح العصر “.
وأما رأي الشاعر حسن كامل الصيرفي فيتلخص في أنه يري محرمًا في شعره يمتاز بعدة خصائص منها الموسيقي العذبة الهادرة والقدرة على التصوير إضافة للديباجة العالية والجزالة السامية المحببة للنفس بغير تصعيب أو تقعر وربما لهذا كان الصيرفي يضع محرمًا في مكان يزاحم فيه شوقي ويقدمه بغير تحفظ على حافظ إبراهيم وربما لهذا أيضًا كانت جماعة أبو لو بكل شعراءها و نقادها تنتصر لمحرم وتطالب بإعطائه زعامة لواء الشعر بعد شوقي وبعد أن كان كثير من شعراء هذه المدرسة ينتصرون لمحرم على شوقي في حياة الأخير الذي استظل بسلطان ونفوذ لا مثيل لهما جلبًا له الشهرة والمال و انتشار قصائده بمجرد انتهائه منها بينما كان محرم يستظل بموهبته فقط وبإخلاصه للعروبة والإسلام وهؤلاء الذي كلفه الكثير في حياته و بعد مماته وحتى اليوم!
محمود صالح
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.