التشهد في الصلاة.. ختام إيماني جامع يوازي فاتحتها
عند التأمل في “التشهد” الذي نقرؤه في ختام الصلاة، نرى أنه ختام إيماني جامع يوازي فاتحتها التي نقرأ فيها “سورة الفاتحة”؛ وذلك بما ورد فيهما من معانٍ كلية، ومن تجديد العبودية لله تعالى، والإشارة إلى معالم رحلة الإيمان كما تتمثل في حياة أنبياء الله والصالحين. فيا له من ختامٍ حَسَنٍ جامع للصلاة!
فاتحة الصلاة
و”سورة الفاتحة” ليست مجرد سورة من سور القرآن الكريم، وإنما هي “أم الكتاب”. وهي القرآنُ موجَزٌ في سورة! فهي فاتحته وبمنزلة الدليل الإرشادي إليه، أو التعبير الموجز له!
إنها سورة تشتمل على معاني الإسلام الكلية؛ حيث كل آية من آياتها السبع ناطقةٌ بأحد هذه المعاني الكلية: فنحن نَبدؤها باسم الله الرحمن الرحيم؛ وهكذا يكون بدؤنا للأعمال متذكرين ربنا تعالى صاحب الفضل والتوفيق والرحمة.. ثم نُثنّي بالإقرار بالحمد لله رب العالمين؛ والحمدُ لا يكون إلا لمن يستحق ولمن تفضَّل علينا بالخلق والإمداد.. ثم نستحضر صفة الرحمة لله تعالى؛ وهي رحمةٌ وسعت كل شيء، وصفةٌ تُرطِّبُ الفؤاد وهو يبدأ رحتله مع الكتاب العزيز أو وهو يبدأ وقوفه بين يدي الله تعالى.. ثم يكون الانتقال إلى يوم الدين؛ والذي هو ملك لله تعالى، لا نسمع فيه صوتًا ولا همًسا. ويجب ألا يغيب هذا اليوم عن بالنا، وإلا فسدت الأعمال وضلت القلوب.. ثم يأتي الإقرار المؤكد بأننا نعبد الله وحده، ونستعين به وحده؛ مع ما في ذلك من اعتراف بالعجز المطلق أمام قدرة الله تعالى.. ثم الدعاء بطلب الهداية ولزوم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.. ثم تعريفُ هذا الصراط بأنه سبيل الذين أنعم الله عليهم، لا طريق مَن انحرفوا، فحقَّ عليهم الغضب والضلال!
إنها معانٍ إيمانية جامعة، تصوغ الوجدان، وتنبه العقل، وتوقظ القلب، وترسم معالم النجاة وشرائط الهداية.
ختام الصلاة
وكما جاءت فاتحة الصلاة على هذا النحو الجامع، جاء أيضًا ختامها؛ وذلك بصيغة جامعة لمعانٍ إيمانية، وعلاماتٍ رئيسة على طريق الهداية والسير إلى الله تعالى.
وإنه لَتَقابُلٌ لافتٌ ذو دلالة مهمة بين فاتحة الصلاة وختامها! حتى لكأن “التشهد” ينزل منزلة السورة من القرآن؛ مِن حيث ما فيه من معانٍ جامعة، وإيمانيات خاشعة، ومعالم هادية.
وقد أُشيرَ لهذا التقابل بوجه ما، في تعبير ابن مسعود رضي الله عنه حين قال: “عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ، التَّشَهُّدَ، كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ” (رواه البخاري). فقول ابن مسعود وإن كان المقصود منه بالأساس تأكيد أنه تعلَّمَ التشهدَ من رسول الله ﷺ، الذي كان حريصًا على تعليم التشهد لأصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن.. فإن التعبير عن ذلك بالمقابلة بين “تعليم القرآن” و”تعليم التشهد” يشير إلى ما للتشهد من مكانة رفيعة؛ بما يدل عليه من معانٍ، وما يتضمنه من هدايات.
ولهذا استحق “التشهد” أن يأتي في ختام الصلاة؛ كما تأتي “الفاتحة” في بداية الصلاة!
من معاني التشهد
وهذا التقابل يتضح حين نتأمل معاني التشهد وهداياته. وقد وردت صِيَغٌ كثيرةٌ للتشهد، في صحيحَيْ البخاري ومسلم وغيرهما. وجاء في فتح الباري لابن حجر شرحٌ بديع مفصل لها، نوجزه فيما يلي، مع تصرُّف وزيادة:
(التَّحِيَّاتُ): جَمْعُ تَحِيَّةٍ، وَمَعْنَاهَا السَّلَامُ، وَقِيلَ الْبَقَاءُ، وَقِيلَ الْعَظَمَةُ، وَقِيلَ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ وَالنَّقْصِ.
(لِلَّهِ): قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ (لِلَّهِ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ؛ أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْعَلُ إِلَّا لِلَّهِ.
(وَالصَّلَوَاتُ): قِيلَ الْمُرَادُ الصلوات الْخَمْسُ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا وَقِيلَ الدَّعَوَاتُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الرَّحْمَةُ. (وَالطَّيِّبَاتُ): أَيْ مَا طَابَ مِنَ الْكَلَامِ وَحَسُنَ أَنْ يُثْنَى بِهِ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَا لَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِ مِمَّا كَانَ الْمُلُوكُ يُحَيَّوْنَ بِهِ.
وَقِيلَ (التَّحِيَّاتُ): الْعِبَادَاتُ الْقَوْلِيَّةُ، (وَالصَّلَوَاتُ): الْعِبَادَاتُ الْفِعْلِيَّةُ، (والطيبات): الصَّدقَات الْمَالِيَّة.
(السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ): السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، كَالْمَقَامِ وَالْمَقَامَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِنَا (السَّلَامُ عَلَيْكَ) الدُّعَاءُ؛ أَيْ سَلِمْتَ مِنَ الْمَكَارِهِ. (وَرَحْمَةُ اللَّهِ): أَيْ إِحْسَانُهُ. (وَبَرَكَاتُهُ): أَيْ زِيَادَتُهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
قَوْلُهُ (السَّلَامُ عَلَيْنَا): اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبَدَاءَةِ بِالنَّفْسِ فِي الدُّعَاءِ. قَوْلُهُ (وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ): الْأَشْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الصَّالِحِ أَنَّهُ الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ؛ وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْظَى بِهَذَا السَّلَامِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ الْخَلْقُ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَكُنْ عَبْدًا صَالِحًا؛ وَإِلَّا حُرِمَ هَذَا الْفَضْلُ الْعَظِيمُ.
(أَشْهدُ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله): إقرارٌ بأن الله تعالى هو وحده المستحق للعبادة. (وأَشْهَدُ أنّ محمّدًا عبدُه ورَسُولُه): اعترافٌ بعبودية محمدٍ لله تعالى، وبرسالته منه.
(اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى محمّدٍ): مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ، ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ. وَمَعْنَى صَلَاة الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ، الدُّعَاء لَهُ. وَعند بن أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حِبَّانَ قَالَ: صَلَاة الله مغفرته، وَصَلَاة الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار.
(وعَلَى آلِ محمّدٍ): أي أهله. (كما صَلَّيتَ عَلَى إِبرَاهِيمَ وعَلىَ آلِ إِبرَاهِيمَ): أي مثل ثنائك على أهل إبراهيم.
(وَبَارِكْ): الْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ هُنَا الزِّيَادَةُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالتَّزْكِيَةِ. (وبَارِكْ عَلَى محمّدٍ وعَلَى آلِ محمّدٍ، كَمَا بَاركْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وعَلَى آَلِ إِبْرَاهِيمَ): أي مثل بركتك على أهل إبراهيم.
فلَمَّا كَانَ تَعْظِيمُ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مَشْهُورًا وَاضِحًا عِنْدَ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، حَسُنَ أَنْ يُطْلَبَ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مِثْلَ مَا حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ خَتْمُ الطَّلَبِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ (فِي الْعَالَمِينَ): أَيْ كَمَا أَظْهَرَتِ الصَّلَاةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ.
(إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ): أَمَّا (الْحَمِيدُ): فَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْحَمْدِ بِمَعْنَى مَحْمُودٍ وَأَبْلَغُ مِنْهُ، وَهُوَ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْحَمْدِ أَكْمَلُهَا. وَقِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْحَامِدِ، أَيْ يَحْمَدُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ. وَأَمَّا (الْمَجِيدُ): فَهُوَ مِنَ الْمَجْدِ. وَهُوَ صِفَةُ مَنْ كَمُلَ فِي الشَّرَفِ. وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، كَمَا أَنَّ الْحَمْدَ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الْإِكْرَامِ.
وَمُنَاسَبَةُ خَتْمِ هَذَا الدُّعَاءِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ تَكْرِيمُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَالتَّنْوِيهُ بِهِ وَزِيَادَةُ تَقْرِيبِهِ؛ وَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ الْحَمْدِ وَالْمَجْدِ. فَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمَا كَالتَّعْلِيلِ لِلْمَطْلُوبِ أَوْ هُوَ كَالتَّذْيِيلِ لَهُ. وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ فَاعِلٌ مَا تَسْتَوْجِبُ بِهِ الْحَمْدَ مِنَ النِّعَمِ الْمُتَرَادِفَةِ؛ كَرِيمٌ بِكَثْرَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِ عِبَادِكَ.
استحضار يزيدنا خشوعًا
بهذا يتضح لنا أن “التشهد” قد حوى معانيَ جليلةً، تتصل بالإيمان بالله تعالى وحسن مخاطبته.. وبالسلام والرحمة والبركة على سيدنا محمد ﷺ.. ثم السلام على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين، في تذكيرٍ بما يجمعنا بعباد الله المؤمنين من رابطة الأخوة.. ثم الإقرار بوحدانية الله تعالى، وبعبودية محمد ورسالته.. ثم طلب الصلاة والبركة لسيدنا محمد وآله، كما حصل ذلك لسيدنا إبراهيم وآله.. ثم الختام بِاسمين عظيمين لله تعالى، يدلان على ما يجب له سبحانه من كثير الحمد وعظيم التبجيل..
ولا شك أن استحضارَ هذه المعاني في الصلاة، وإِمْرَارَها على القلب مثلما تَمُرّ على اللسان؛ يَزيدنا خشوعًا في الصلاة، ويجعلنا نختمها على نحوٍ من الإخبات والسكينة، مما بَدَأناها به ونحن نقرأ الفاتحة.
فـ”الفاتحة” و”التشهد” يجمعهما تقابلُ البَدْءِ والختام، ويشتركان في الدلالة على معانٍ إيمانية جامعة، ومحطاتٍ مهمة في مفاهيم الإسلام ومعالمه الكبرى.
اكتشاف المزيد من ماسنجر المسلم
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.