ما يهم المسلم

مقاييس التدين في عصر البيانات الضخمة


منذ منتصف القرن التاسع عشر، أصبح الدين ومقاييس التدين من المواضيع الجوهرية في مجالات الدراسات الإنسانية والاجتماعية، لا سيما في علوم الاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا. ومع ترسخ النزعة الوضعية في بنية هذه العلوم، التي سعت إلى رصد وتكميم الظواهر الإنسانية عبر أدوات إحصائية دقيقة، برزت تساؤلات منهجية عميقة ومؤسسة.

لقد أصبح الباحثون في مواجهة مباشرة مع أسئلة محورية: هل يمكن قياس الدين؟ وهل الأدوات الكمية التقليدية المستخدمة قادرة على تقديم قراءة دقيقة لظاهرة معقدة مثل مفهوم التدين؟ وهل هناك مساحات دينية تتعطل فيها الأدوات البحثية؟ كما أثيرت انتقادات متعددة بشأن فاعلية المناهج الإنسانية والاجتماعية في دراسة الظواهر الدينية وقياسها.

ويأتي كتاب “مقاييس التدين” والذي حرره روجر فينكي أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدينية في جامعة ولاية بنسلفانيا، وكريستوفر بايدر أستاذ علم الاجتماع في جامعة تشابمان، وقام مركر نهوض للدراسات والبحوث في الكويت بنشر النسخة العربية في عام 2024م بترجمة أسامة عباس ومراجعة د. رياض العيسى، ليقدم معالجة علمية نقدية لهذه الإشكاليات ، ويطرح إجابات وبدائل منهجية متعددة الأبعاد تراعي تعقيد الدين وتنوع أشكاله وتعبيراته الثقافية والاجتماعية.

هدف كتاب مقاييس التدين ومنهجه

يهدف هذا العمل بشكل أساسي إلى تحقيق غايتين مركزيتين تمثلان جوهر مساهمته العلمية:

  • تحسين المنهجيات السائدة المستخدمة في الدراسة العلمية للدين
  • استكشاف استخدام بعض المناهج الجديدة في تلك الدراسة.

يقدم كتاب مقاييس التدين نقدا نظريا ويعرض مقاربات عملية وبدائل مبتكرة تسلط الضوء على الجهود المشتركة لعلماء الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا وعلماء البيانات والإحصاء في سبيل تطوير منهجيات جديدة ومتعددة الأبعاد لقياس الدين.

ومن جهة أخرى ، يرفض الكتاب الاكتفاء بأداة واحدة مثل “الاستبيان الجيد” ، ويقترح بدلا من ذلك إطارا منهجيا مرنا يمكن وصفه بأنه “صندوق أدوات بحثية”، يحتوي هذا الصندوق على نماذج ومنهجيات قابلة للتكييف بحسب السياق البحثي والبيئة الثقافية ، ويشمل: الاستطلاعات المحسّنة، والمقاييس الضمنية، وتحليل البيانات الضخمة، والاستفادة من المصادر الرقمية. ومن خلال دراسة الحالات والأمثلة العملية، يُبيّن الكتاب أن التحديات التي تواجه الباحثين في تطوير هذه الأساليب وتنفيذها تستحقُّ الجهد ، كما توفر فرصا لتعزيز فهمنا للدين في العصر الحديث.

بنية الكتاب ومحتواه التفصيلي

يتألف الكتاب من قسمين رئيسيين، يضم كل منهما ستة فصول ، بإجمالي اثني عشر فصلًا، تغطي مجموعة واسعة من القضايا النظرية والتطبيقية في قياس التدين.

القسم الأول: مقاييس الاستطلاعات الدينية

يركز هذا القسم على دراسة التحديات المتعلّقة بأدوات القياس الكمي التقليدية، ويقدم مراجعات نقدية وحلولًا تطبيقية. تتناول فصوله قضايا مثل تأثير الهوية الدينية على استجابات المشاركين ، والرغبة في عرض الذات المثالية لا الواقعية ، وتحيزات الاستحسان الاجتماعي. كما يراجع أدوات القياس والمفاهيم المركزية في سيكولوجيا الدين والروحانية.

ويقدم بدائل للتقرير الذاتي عبر استعراض المقاييس الضمنية وغير المباشرة للتدين، والتي تعمل عبر طرائق المعاني المتداعية والاختبارات السريعة لتجاوز المقاييس المعيارية. علاوة على ذلك، يناقش القسم توظيف بيانات التعهيد الجماعي عبر منصات مثل ( Amazon MTurk ) لتقييم مقاييس التدين والعلمانية. ويشرح كيفية استخدام أدوات متخصصة مثل “مساعد القياس” من جمعية أرشيف البيانات الدينية (ARDA) لتحسين جودة البيانات وتحليلها. ويُختتم بتطبيق “نموذج الخطأ الكلي للمسح” لتحسين دقة القياسات في الدراسات الدولية المقارنة.

القسم الثاني: ما وراء الاستطلاعات

ينتقل هذا القسم إلى استكشاف أدوات رقمية ومنهجيات غير تقليدية في دراسة الدين، فاتحا آفاقا جديدة تتجاوز الاستبيان. تشمل موضوعاته تحويل الوثائق المختلفة – مثل الوثائق الحكومية وأرشيف الصحف والمواقع الإلكترونية – إلى بيانات قابلة للتحليل. كما يعرض طرق جمع البيانات التاريخية والمشكلات المتعلقة بالمصادر عبر الإنترنت ، مع تقديم دراسة حالة حول تتبّع جماعة “أونايدا” الدينية من القرن التاسع عشر عبر الأرشيف الرقمي.

ويتناول أيضا تحديات وحلول دراسة المنظمات الدينية غير الحكومية. ويبرز القسم الإمكانات الهائلة للأدوات الرقمية، مثل استخدام ( Google Books ) ، ( Ngram Viewer ) لمراجعة ملايين الكتب وتتبع تغير المفاهيم الدينية عبر الزمن ، واستثمار أنظمة التوصية في أمازون لرسم خرائط شبكات استهلاك الكتب الدينية والروحانية.

ويختتم بفصل عن الدروس المستفادة من دراسة “سول-بلس”، والتي تعتمد على طريقة أخذ العينات عبر الهواتف الذكية لدراسة الدين والروحانية في الحياة اليومية.

خاتمة

يمثل “مقاييس التدين” مصدرا حديثا في ميدان دراسة الدين من منظور علمي حديث، ويطرح الكتاب أدوات جديدة ومتعددة الأبعاد لفهم الدين بطرائق أكثر شمولًا ومنهجية، مما يفتح آفاقًا جديدة وواعدة للباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى